4.9% نمواً قياسياً للأسعار فى منطقة اليورو خلال نوفمبر الماضى
كشفت رئيس البنك المركزى الأوروبى، كريستين لاجارد، النقاب مؤخراً عن خطط لإعادة تصميم الأوراق النقدية باليورو لأول مرة منذ إطلاقها قبل عقدين من الزمن، قائلة إن هذه الخطوة تأتى رغم أن هذه الأوراق كانت “رمزاً ملموساً ومرئياً للوقوف جنباً إلى جنب مع أوروبا، خاصة فى أوقات الأزمات”.
ويؤكد تعليق لاجارد على فخرها بالنهج الموحد الذى اتبعته الدول الأوروبية وصناع السياسات لمعالجة التداعيات الاقتصادية لوباء “كورونا”، حتى الآن على الأقل، حتى تتصدى لاحتمالات تكرار أزمة الديون التى ضربت المنطقة فى عام 2012، والتى هددت بتمزيق اتحاد اليورو.
ومع ذلك، لا يزال هناك تحدى أصعب بانتظار البنك المركزى الأوروبى، فبعد الإشراف على أكبر ضخ للتحفيز النقدى فى تاريخ العملة الأوروبية الموحدة، بما فيها شراء سندات حكومية وكمية مماثلة من القروض المدعومة بشدة من البنوك بقيمة 2.2 تريليون يورو، يستعد البنك المركزى الآن لبدء تقليص دعمه للاقتصاد.
وبدأت معظم البنوك المركزية بالفعل فى سحب سياسات التحفيز السخية التى قدمتها لخفض تكاليف الاقتراض وحماية الاقتصادات من تداعيات الوباء، لكن المركزى الأوروبى أكثر تردداً من البقية فى التراجع عن الدعم، بعد أن كافح حتى وقت قريب مع أعوام من التضخم المنخفض بشكل غير مريح والنمو البطئ.
ومما لا شك فيه أن منطقة اليورو تواجه تعقيدات إضافية على عكس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى أو البنك المركزى البريطانى، لأن بنكها المركزى يتعين عليه وضع سياسات لـ19 دولة مختلفة، لكل منها اقتصادها – والأهم من ذلك – سوق سنداتها، وفقاً لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ومن هذا المنطلق، فإن أى تحول من جانب البنك المركزى الأوروبى إلى سياسة أقل تيسيراً يخاطر بإعادة إيقاظ التوترات المالية القديمة فى المنطقة عبر دفع تكاليف التمويل للحكومات الأضعف، خاصة إيطاليا، وخنق انتعاشها الاقتصادى الناشئ.
وتتطلب إدارة مرحلة التعافى قيام لاجارد وزملائها من صناع السياسة بوضع موازنة دقيقة، فى ظل محاولاتهم لتجنب الأخطاء التى ارتكبها المركزى الأوروبى عندما رفع أسعار الفائدة قبل الأوان فى عام 2011 عندما كانت أزمة ديون المنطقة آخذة فى التفشى.
ومع ذلك، ربما يخاطر البنك المركزى الأوروبى بفقدان المصداقية والإجبار على تصحيح أكثر إيلاماً فى السياسة لاحقاً إذا انتظر وقتاً طويلاً لعكس اتجاهه التحفيزى.
وهذا الأمر قد يحدث إذا لم يتراجع التضخم إلى ما دون الهدف الرئيسى للبنك البالغ 2% بالسرعة المتوقعة، بعد أن وصل بالفعل إلى مستوى قياسى جديد فى منطقة اليورو يبلغ 4.9% فى نوفمبر الماضى.
ويتوقع معظم المحللون أن يواصل المركزى الأوروبى شراء السندات وإبقاء أسعار الفائدة فى المنطقة السلبية على الأقل حتى عام 2023، خاصة بعد أن أقر فى مراجعة الاستراتيجية أن التضخم قد يتجاوز هدفه لفترة.
ويقول فيتور كونستانسيو، نائب رئيس البنك المركزى الأوروبى السابق وأستاذ الشئون المالية فى جامعة نافارا بمدريد: “لقد أصبح الوضع أكثر صعوبة بالنسبة للبنك المركزى الأوروبى، والسؤال الكبير هو مدى السلاسة التى سيستعد بها المركزى الأوروبى لعواقب الوباء والانتهاء التدريجى من عمليات شراء الأصول”.
وعندما يجتمع البنك المركزى الأوروبى، اليوم الخميس، من المتوقع أن تعلن لاجارد عن الخطوة الأولى فى عملية سحب التحفيز ببطء عبر تحديد خطط لإنهاء صافى مشتريات السندات فى مارس فى إطار برنامج الطوارئ الوبائى البالغ 1.85 تريليون يورو، والذى تم إطلاقه بعد تفشى الوباء العام الماضى.
وما يعقد قرار البنك المركزى هو ظهور سلالة “أوميكرون” الجديدة فى وقت ارتفع فيه معدل الإصابة بالفعل إلى مستويات عالية جديدة فى أجزاء كثيرة من أوروبا.
ومن المتوقع أن تؤثر العودة إلى مستويات متفاوتة من الإغلاق على نمو منطقة اليورو، التى كانت فى طريقها للتعافى من ركود العام الماضى القياسى بحلول نهاية العام الجارى.
وفى الوقت نفسه، يمكن أن تؤدى موجة الوباء الأخيرة على الأرجح إلى تفاقم اختناقات سلسلة الإمداد التى تسببت بالفعل فى تراكم كبير للحاويات فى الموانئ وزيادات حادة فى أسعار العديد من السلع، وكلها يمكن أن تبقى التضخم أعلى لفترة أطول.
وبعد تراجع النمو الاقتصادى لمنطقة اليورو بنسبة قياسية بلغت 6.5% العام الماضى، توقع الاتحاد الأوروبى أنه سيرتفع بنسبة 5% العام الجارى و4.3% العام المقبل، وهى أعلى مستويات نمو مسجلة منذ إطلاق العملة الموحدة قبل أكثر من 20 عاماً.
وتتوقع بروكسل أيضاً أن يظل التضخم فى الكتلة الأوروبية أعلى من هدف المركزى الأوروبى البالغ 2% للعام الثانى على التوالى فى عام 2022، وهى المرة الأولى التى يحدث فيها ذلك منذ عقد زمنى.
ومن المتوقع أن يرفع البنك المركزى الأوروبى توقعاته الخاصة بالتضخم، لكن يبدو أنه مصمم على تجنب أى انعكاس مفاجئ فى السياسة.
وهذا يعنى أن المركزى الأوروبى يبدو على نحو متزايد وكأنه “متشائم” مقارنة بالعديد من البنوك المركزية.
واستجابة لارتفاع التضخم بشكل أقوى مما توقعوا، من المتوقع أن يشير الاحتياطى الفيدرالى والبنك المركزى البريطانى إلى أنهما سيوقفان شراء الأصول ويستعدان لرفع أسعار الفائدة فى الأشهر القليلة المقبلة.
وفى المقابل، يتوقع المركزى الأوروبى استمرار شراء السندات طوال العام المقبل، وقالت لاجارد إنه من “غير المرجح للغاية” البدء فى رفع أسعار الفائدة قبل عام 2023 على أقرب تقدير.
وعندما ظهر الوباء لأول مرة العام الماضي، كانت نقطة الانطلاقة التى اتخذتها لاجارد متعثرة، وعندما سُئلت عما يمكن أن يفعله البنك المركزى لدعم الحكومات مع إغلاق اقتصاداتها فى مارس 2020، قالت لاجارد إن مهمة البنك المركزى الأوروبى ليست “تقليص الفوارق”، فى إشارة إلى الفائدة الإضافية التى يتعين على أعضاء منطقة اليورو الأضعف دفعها مقارنة بألمانيا عندما يبيعون الديون الجديدة.
وتسبب تعليق لاجارد فى تدهور أسواق السندات فى منطقة اليورو، حيث شك المستثمرون فجأة فى التزام المركزى الأوروبى بالحفاظ على تماسك منطقة اليورو فى وقت الأزمة، وتحملت إيطاليا، وهى الأكثر مديونية من بين الاقتصادات الكبيرة بالكتلة، وطأة عمليات بيع السندات.
وهذا الأمر دفع لاجارد لإعادة التفكير سريعاً والتراجع عن التصريحات ثم كشف المركزى الأوروبى عن برنامج طوارئ وبائى أكبر بكثير، ما ساهم فى تهدئة الأسواق بعد أسابيع قليلة من التقلبات وانخفضت عائدات السندات الإيطالية لبقية العام.
وكانت استجابة أوروبا للوباء أكثر توحيداً وفعالية حتى الآن مما كانت عليه فى الأزمات السابقة، لكن الاختبار الحقيقى سيكون فى كيفية إدارتها للانتعاش.