كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مؤخراً، نظريته غير التقليدية القائلة بأن أسعار الفائدة المنخفضة ستولد “نموذجاً اقتصادياً جديداً” لبلاده، فهذا الانخفاض سيؤدي إلى خفض التضخم وزيادة الاستثمار والتوظيف والصادرات وتعزيز استقلال تركيا عن الدول الأخرى.
مع ذلك، فإن تجربته الاقتصادية لخفض أسعار الفائدة في مواجهة التضخم، بدلاً من زيادتها، أغرقت بلاده في أزمة مع انهيار العملة وارتفاع الأسعار ومكافحة الشركات مع تكاليف المدخلات والمعاناة الشديدة، خاصة بين أفقر الناس.
يشير هذا إلى أن مفاهيم أردوغان معيبة للغاية، كما هو الحال بالنسبة للنظرية الاقتصادية القياسية، التي تشير إلى الحاجة لارتفاع معدلات الفائدة للدفاع عن العملة عبر ردع تدفقات رأس المال الخارجة والتركيز على الإنفاق المحلي وإثبات أن السلطات جادة في السعي لمنع دوامة التضخم.
يتجه التضخم في تركيا نحو 30% بعد أن فقدت الليرة أكثر من نصف قيمتها مقابل الدولار الأمريكي هذا الخريف، وذلك رغم الانتعاش الذي سجل في وقت متأخر يوم الاثنين بعد إعلان أردوغان عن إجراءات لتعويض حاملي الليرة في البنوك في حالة استمرار انخفاض قيمة العملة.
مع ذلك، تساءل المجتمع الاقتصادي نفسه عن دور التدفقات النقدية الساخنة من وإلى الاقتصادات الناشئة والنظريات التقليدية، بقيادة الأستاذة هيلين راي من كلية لندن للأعمال، التي أشارت في عام 2013 إلى أن الأسواق الناشئة غالباً ما تقع تحت رحمة التدفقات الرأسمالية المدفوعة من خلال سياسات الاحتياطي الفيدرالي وتلك الخاصة بالبنوك المركزية الرئيسية الأخرى.
كما رسم صندوق النقد الدولي نموذجاً يمكن أن تؤدي فيه أسعار الفائدة المرتفعة إلى ارتفاع التضخم، حسبما ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
أشارت ورقة العمل التي أعدها كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، أوليفييه بلانشارد وزملاؤه، إلى أن التدفقات الكبيرة لرأس المال والمتجهة إلى الاقتصاد الناشئ- التي غالباً ما تحدث بسبب ارتفاع أسعار الفائدة- قد تؤدي إلى “طفرات ائتمانية وزيادة الإنتاج” وتضخم.
لكن رغم نشر صندوق النقد الدولي- الكاهن الأكبر للأرثوذكسية الاقتصادية- لمثل هذه الأوراق، فإن هذه الظروف لا تنطبق على تركيا.
تعاني البلاد من عجز مستمر في حسابها الجاري، إذ تتجاوز الواردات الصادرات بانتظام، وتعاني من ارتفاع معدلات التضخم الذي تجاوز معدله السنوي البالغ 10% طوال الـ 15 عام الماضية تقريباً.
وهذا يشير إلى مشكلة أساسية في نمو الأسعار مضمنة في النظام والتي لم تفعل السياسة سوى القليل للقضاء عليها.
في بداية ديسمبر، قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في باريس إن الضغوط التضخمية في تركيا تعززت بشكل أكبر هذا العام من خلال القروض المدعومة المقدمة للشركات المحلية منذ بداية الوباء، مما ساعد على تعزيز “النمو المزدهر” الذي تقوده الصادرات، وبالتالي جعل إنتاجها الاقتصادي لعام 2021 أعلى من الذي توقعته منظمة التعاون الاقتصادي قبل تفشي كوفيد.
كما حذرت منظمة التعاون الاقتصادي من أن تركيا ستكون عرضة على الأرجح لمزيد من الضغوط المحتملة من الأجور وتكاليف الاستيراد وأسعار المنتجين.
قال داني رودريك، البروفيسور في كلية هارفارد كينيدي، إن أردوغان عانى لأعوام من موجة من تدفقات رأس المال التي اجتذبت إلى تركيا من خلال هوامش سعر فائدة أعلى قليلاً.
وأوضح رودريك أن “أحد أساطير العولمة المالية أنها تفرض الانضباط الاقتصادي الكلي”، مشيراً إلى أن الأسواق المالية ستضمنتطبيق البلاد لسياسات مستدامة وذات مصداقية تجتذب النقد الأجنبي.
وأضاف: “في تركيا، كان العكس، إذ استمرت التجربة الاقتصادية هناك لفترة أطول بكثير مما ينبغي، بفضل العرض الأكثر مرونة للتمويل، وستكون التكاليف الاقتصادية أكبر نتيجة لذلك”.
يجادل كل من رودريك وصندوق النقد الدولي بأنه حتى لو ساعدت أسعار الفائدة المرتفعة في جذب التدفقات الداخلة التي أدت إلى زيادة الإنفاق والتضخم المحلي، فإن الرد الصحيح من جانب أنقرة كان تعويض التأثير بسياسة أكثر صرامة، وقبول نمو أبطأ لدعم طويل الأجل الاستقرار والتصدي لأزمة الثقة التي عانت منها تركيا في الأسابيع الأخيرة.
وبدلاً من ذلك، فعل أردوغان العكس بمساعدة حاكم بنك مركزي مختار بعناية، و خفضت البلاد معدل سياستها قصيرة الأجل من 19% في سبتمبر إلى 14% في 16 ديسمبر، في سلسلة من التحركات التوسعية.
كان الهدف هو خفض قيمة الليرة التركية تدريجياً وتعزيز الصادرات من خلال زيادة القدرة التنافسية لشركات التصنيع الأصغر حجماً، مع تحويل الإنفاق من الواردات إلى السلع والخدمات المحلية.
رغم أن عجز الحساب الجاري قد تحول إلى فائض منذ أغسطس، فإنه جاء بتكلفة باهظة لمصداقية السياسة الاقتصادية لأنقرة وسبل عيش سكان تركيا.
وتجاوز معدل التضخم الرسمي 20% في نوفمبر مع ارتفاع الأسعار بنسبة 3.5% في ذلك الشهر وحده، وبالتالي يعتقد العديد من المراقبين أن هذا تقدير أقل من الوتيرة الحقيقية للتضخم.
ومع ذلك، فمن المتوقع أن يقفز بشكل أعلى في ديسمبر عندما تظهر آثار انهيار الليرة التركية في أسعار الواردات.
والأسوأ من ذلك، أدى انخفاض الليرة إلى زيادة ديون الشركات والحكومة، اللتين زادتا من اقتراضهما بالعملات الأجنبية، فقد ارتفعت ديون الشركات غير المالية في تركيا بنسبة 20% من الناتج المحلي الإجمالي منذ ظهور الوباء، وهي أعلى نسبة بين الاقتصادات الناشئة، بحسب تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
حتى تخفيضات أسعار الفائدة لم تعد تخفف من الظروف المالية للشركات، لأن الأسواق المالية تطالب الآن بتعويض أكبر عن المخاطر، كما ارتفعت عائدات السندات الحكومية التركية بشكل حاد حيث فقد المستثمرون الأجانب والمحليون الثقة في الليرة وسعوا وراء أمان العملات الصعبة.