الأسبوع الحالي، تجتمع النخبة العالمية مرة أخرى في دافوس بسويسرا بعد توقف دام عامين بسبب الوباء للمنتدى الاقتصادي العالمي، وستدور المحادثة حول انحسار العولمة وسلبياتها، وأتوقع أن تكون العناوين الرئيسية هي أن الانفصال بين الصين والولايات المتحدة لا يمكن الدفاع عنه، والتجارة الحرة تعمل دائمًا تمامًا كما اعتقد ديفيد ريكاردو ( اقتصادي سياسي بريطاني 1772ـ 1823).
وما لم نعد إلى الوضع الراهن في منتصف التسعينيات من الليبرالية الجديدة، فالهلاك ينتظرنا.
سيعرف قراء هذا العمود أنني لا أوافق على ذلك، ونعم، أنتجت أحدث جولاتنا من العولمة ثروة أكثر مما عرفه العالم على الإطلاق، ولسوء الحظ، كما أشار الخبير الاقتصادي داني رودريك، مقابل كل دولار واحد من مكاسب الكفاءة في التجارة، هناك عادةً ما قيمته 50 دولارًا تم توجيهها للأغنياء، والعواقب الاقتصادية والسياسية لذلك هي السبب الرئيسي الذي يجعلنا الآن في فترة انحسار العولمة.
حتى مع تزايد سلاسل التوريد الإقليمية والمحلية بسرعة، يواصل الأكاديميون وصناع السياسات مناقشة ما إذا كان الانفصال ممكناً، ويجب عليهم الخروج من البرج العاجي والتحدث إلى المزيد من المديرين التنفيذيين وقادة العمال، ففي الوقت الذي يناقش فيه الاقتصاديون “الممكن”، فإن الشركات تسير ببساطة مع الواقع الجديد لعالم ما بعد الليبرالية الجديدة والتكيف بطرق إبداعية، وفي بعض الحالات، بطرق تعزز النمو.
فالأسواق الناشئة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، على سبيل المثال، تبني شبكات إنتاج إقليمية للسلع الأساسية، وفي نهاية المطاف، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إنشاء مسارات تجارية أكثر مرونة ونماذج تطوير جديدة غير مرتبطة تماماً بتصدير البضائع الرخيصة إلى حفنة من الدول الغنية عبر طرق النقل الطويلة التي أصبحت أكثر تكلفة وإثارة للجدل السياسي.
في كل مكان تقريبا، تسمح التقنيات اللامركزية والبيانات الضخمة بمزيد من الإنتاج المحلي من أجل “السوق المحلي”، وهو أمر قد ينتهي به الأمر أيضاً ليكون مفيداً لكوكب الأرض، وتعد الطباعة ثلاثية الأبعاد موضوعا كبيرا آخر على جدول أعمال دافوس، وعلى سبيل المثال، تظهر المنازل المطبوعة ثلاثية الأبعاد ليس فقط كحل سريع للإسكان في مناطق الكوارث، ولكن في البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة كحل محتمل لتضخم الإيجارات.
باختصار، عالم ما بعد الليبرالية الجديدة ليس سيئاً بالكامل أو جيداً – إنه مختلف تماماً، والأهم من ذلك، أنه انعكاس للواقع على الأرض، واحدة من الأساطير العظيمة عن تجارة عدم التدخل من قبل الحكومات هي أن السياسة والقيم الثقافية ليست مهمة وإنما إذا كان بإمكان دولتين التجارة معاً، فسيكون كلاهما أكثر ثراءً وأفضل حالًا ببساطة.
القومية لا يجب تشجيعها، وإنما ينبغي إعادة النظر في الحكمة الاقتصادية التقليدية، ولننظر للجدل الدائر حول التصنيع، وهو موضوع آخر للمنتدى الاقتصادي العالمي.
يشير العديد من الاقتصاديين إلى حقيقة أن التصنيع يمثل نسبة صغيرة ومتناقصة من الوظائف في البلدان الغنية وفي العديد من الدول الفقيرة أيضًا.
يجب على البلدان التخلي عن أعمال المصانع أثناء انتقالها إلى أعلى السلسلة الغذائية إلى الخدمات. ولكن كما يعلم أي شخص في عالم الأعمال، كانت هذه القطاعات دائمًا أكثر تداخلًا مما تشير إليه بيانات الوظائف، وقد أصبحت أكثر من ذلك بكثير في عصرنا.
تظهر الأبحاث أن الأعمال التجارية كثيفة الاعتماد على المعرفة من جميع الأنواع تكون أكثر انتشاراً في مراكز التصنيع، ما يحفز مستويات أعلى من النمو في البلدان التي تنشئها، والتحول المستمر إلى المرحلة التالية من التطور الرقمي، من الإنترنت للمستهلكين إلى “إنترنت الأشياء”، سيدفع هذا الاتجاه بقوة.
فكر في شيء بسيط مثل إطار السيارة، عندما تصبح المركبات ذاتية القيادة أكثر شيوعاً، سيصبح الإطار نقطة جمع المعلومات الرئيسية بين الطريق والسيارة، ومراقبة الظروف ، وتتبع الحركة وما إلى ذلك، وتعمل شركات مثل “بريدجستون” و”بيريلي” وميشلان” وغيرها على دمج أجهزة الاستشعار في المنتجات لجمع هذه البيانات القيمة ، والتي سيتم تحليلها من قبل عدد من الشركات والصناعات الأخرى، مما يؤدي إلى خلق شركات ووظائف جديدة تمامًا لا يمكننا تخيلها حتى الآن، ومن سيملك هذه البيانات؟ على الأرجح، الشركات والبلدان التي تصنع المنتجات.
هذه ليست حجة للتعريفات الجمركية أو استبدال الواردات أو حتى للسياسة الصناعية (رغم أنني لست ضد هذه الأخيرة) بل هو نداء لمزيد من التفكير الاستقرائي عند التفكير في نظامنا الاقتصادي الناشئ. في كثير من الأحيان، نميل إلى اللجوء للتفكير القديم لأنه لا يوجد حتى الآن نظرية موحدة لعالمنا الجديد، وهذا لا يجعل النماذج القديمة تعمل بشكل أفضل.
العولمة ليست حتمية، رغم ما قيل لنا من قبل السياسيين في التسعينيات، ولكي يعمل أي اقتصاد سياسي، يجب أن يخدم الاحتياجات المحلية، وتأتي التحولات التي نمر بها اليوم مع تحديات وفرص على حد سواء. وبهذا المعنى، فإن انحسار العولمة لا يختلف كثيراً عما حدث من قبل.
بقلم: رنا فوروهار، كاتبة عمود يغطي الشركات العالمية ومحرر مشارك في صحيفة “فاينانشيال تايمز”
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز”.