الدول المهددة بمواجهة ضائقة الديون لن تنسى بسهولة إذا خذلها العالم الغنى وقت الأزمة
العالم يترنح من تضافر مجموعة من الصدمات التاريخية، ففى ظل تشتت انتباه الدول الثرية، المنشغلة بقضاياها المحلية والمنافسات الجيوسياسية، تواجه الاقتصادات النامية مخاطر أن تُترك لتتدبر أمرها بنفسها، وقد لا يتمكن النظام الدولى من تجاوز هذا الإهمال.
بينما تتراكم الأزمات، ثمة 41 دولة معرضة لخطر المعاناة من ضائقة ديون، إذ تعد بيئة السياسات الحالية الأكثر تعقيداً على المستوى العالمى فى حياتنا، وهى لحظة مهمة وخطرة بالنسبة للمجتمع الدولى.
فى ظل الظروف العادية، قد تبدو مثل هذه العناوين الصادرة عن المؤسسات التجارية والمالية العالمية الرائدة بمثابة دعوة واضحة لإنقاذ العالم النامى، لكن هذه أوقات بعيدة كل البعد عن المعتاد والنداءات «لا» تترك صدى.
مع تحول انتباه الدول الغنية إلى حرب أوكرانيا وشبح الركود التضخمى المطول الذى يخيم عليها، يسقط بقية العالم عبر شقوق شبكة الأمان العالمية المقامة بشق الأنفس بعد الحرب العالمية الثانية، بحسب صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية.
على وجه الخصوص، لا يولى العالم نفس قدر الاهتمام تقريباً للمشكلات المتعلقة بالديون وتدفقات رأس المال التى تواجه الدول فى آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، مثلما فعل تجاه المشكلات المشابهة التى واجهت عدة دول أوروبية قبل عقد زمنى.
كانت الوكالات المانحة متعددة الأطراف والثنائية فى حالة جمود، ما ترك كثيراً من الدول فى وضع حرج.
ومن المذهل أن التوازن الدقيق بين التمويل والتعديل فى برامج صندوق النقد الدولى التقليدية، الذى تم تعليقه فى حالة أوروبا والأرجنتين أخيراً، ما زال رائجاً بشكل كبير، ويزداد ذلك مع تهديدات التضخم التاريخية فى المواد الغذائية والوقود بتمزيق المجتمعات الفقيرة.
ورغم كل التصريحات المتعلقة بالحماية الاجتماعية ومعالجة الديون، مازالت الأدوات المستخدمة لتقييم المشكلات فى الدول النامية وخيارات السياسة التى يقدمها حراس النظام العالمى جامدة وقديمة الطراز.
وربما يكون الأمر الأكثر ضرراً هو أن المساهمين التقليديين فى الوكالات متعددة الأطراف الرئيسة يبدون قلقين للغاية بشأن الانخراط فى عالم جديد برزت فيه الصين مستثمراً ودائناً كبيراً.
لا شك أن هذا أمر مأساوى، لأن الضغط الشديد الذى تواجهه الاقتصادات النامية اليوم يعد بشكل كبير انعكاس لقوتين خارجتين عن إرادتها.
القوة الأولى تتمثل فى الصدمات الكبيرة المتزامنة على شكل خروج غير مؤكد من مرحلة الوباء، إضافة إلى الدورة الفائقة للسلع والتشديد التاريخى من جانب الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى.
أما القوة الثانية، فهى الاعتماد المفرط على أسواق الديون بدلاً من تدفقات الأسهم التى ينشرها النظام المالى العالمى الحالى، ما يترك الدول عرضة للتحولات فى المعنويات ودورة أسعار الفائدة العالمية وتعزيز قوة الدولار من النوع الذى نشهده حالياً.
هذا هو بالضبط الوقت الذى ينبغى أن تنطلق فيه المؤسسات الواقعة فى مركز شبكة الأمان العالمية إلى حيز التنفيذ وتوفر حلولاً مبتكرة، لكنها لا تفعل ذلك، وقد تكون العواقب وخيمة.
فى وقت تتراجع فيه العولمة بالفعل، من المرجح أن يؤدى إجبار الدول الفقيرة على اختيار الجهة التى يجب أن تلجأ إليها للحصول على المساعدة إلى ترك ندوب دائمة، ولن تنسى الدول الفقيرة بسهولة كيف خذلها نظام كان يُفترض أن يرفع مستويات معيشتها ويحميها فى حالات الطوارئ.
نتيجة لذلك، يمكن أن ينقسم العالم إلى كتل متنافسة، ما سيكون ضاراً للغاية بالرفاهية والأمن العالميين على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، لن يترك لنا هذا أى أمل فى معالجة تغير المناخ، وهو أخطر تهديد تواجهه البشرية على الإطلاق، فهو تهديد يدعو إلى التآزر، وليس التفكك.
ما زال هناك متسع من الوقت لمنع هذا التفكك الخطير، لكن لا يمكن تحقيق ذلك دون تحديث النظام العالمى، الذى ساعد على ربط العالم ببعضه خلال معظم أوقات الـ80 عاماً الماضية، لكنه حقق نتائج متباينة من حيث دعم التقارب الاقتصادى عبر الدول والقضاء على الفقر فى العالم ومنع أزمات الديون وتقديم مصالح المواطنين على مصالح الشركات متعددة الجنسيات، لكن هذا السجل بحاجة للتحسين.
بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمع زعماء العالم معاً لإعادة تشكيل العالم وإعادة تأهيل الدول التى قاتلت مع أطراف متعارضة.
هناك حاجة إلى روح مشابهة اليوم، مدفوعة بأربع أولويات رئيسة جديدة، وهى بناء نظام تجارى ومالى أكثر ملاءمة للتنمية، وإنشاء شبكة أمان حديثة لا تفرض على الفور تشديداً مسايراً للدورة الاقتصادية وتوفير حماية حقيقية للأشخاص الضعفاء، وضمان التوزيع العادل للتكنولوجيا، ودعم الطاقة النظيفة.
من بعض النواحى، يجب أن تكون عملية إعادة الصياغة أسهل فى التنظيم لأن العالم ما زال مكاناً مسالماً نسبياً، وما إذا كان ذلك سيحدث على الإطلاق فهو أمر مفتوح للتخمين، لكن المخاطر التى يتعرض لها الاقتصاد العالمى لم تكن قط أكبر مما هى عليه الآن.