الصدمة التضخمية في المنطقة تتزامن مع الانكماش
تضافر الغزو الروسي لأوكرانيا والتعافي غير المتكافئ من وباء كورونا والجفاف في معظم أنحاء قارة أوروبا، لخلق أزمة طاقة حادة ومعدلات تضخم مرتفعة واضطرابات في الإمدادات وعدم يقين هائل بشأن مستقبل الاقتصاد الأوروبي، وهذا قاد الحكومات لاتخاذ خطوات سريعة في محاولة لمساعدة الفئات الأكثر ضعفاً.
مع ذلك، هناك اتفاق واسع النطاق على شيء واحد وسط هذا الاضطراب العصبي، ألا وهو أن الركود الاقتصادي قادم لا محالة.
يعتمد مدى سوء الانكماش الاقتصادي على كيفية حدوث صدمة الطاقة وكيفية استجابة صُناع السياسة لها.
وصلت أسعار الطاقة خلال الأسبوع الماضي إلى مستويات مرتفعة بشكل يفوق الخيال، حيث تجاوز سعر الغاز القياسي تسليم الربع الأخير من عام 2022 حاجز الـ290 يورو “أي ما يعادل 291 دولار” لكل ميجاوات في الساعة، مقارنة بالسعر المعتاد قبل الوباء والذي بلغ نحو 30 يورو.
وتجاوز سعر الكهرباء حاجز الـ1200 يورو لكل ميجاوات ساعة خلال النهار لنفس الربع السنوي في ألمانيا، ارتفاعاً من نحو 60 يورو.
وأوضحت مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية أن الغاز هو الوقود الهامشي في معظم أسواق الكهرباء الأوروبية، بالتالي فإنه يحدد سعر الطاقة على نطاق أوسع.
دخل الاقتصاد الأوروبي حالة الأزمة في موقف قوي نسبياً، فسوق العمل ما زال في وضع جيد ، إذ بلغ معدل البطالة 6.6%، مما يعني- وفقاً للمعايير الأوروبية- أن الاقتصاد يقترب من التوظيف الكامل.
ومن المحتمل ارتفاع نمو الأجور في الأشهر المقبلة، مع إعادة التفاوض على العقود طويلة الأجل، كما انخفضت ثقة المستهلك في بداية الحرب، لكن الاستهلاك لم يتراجع، وتراجعت توقعات التضخم إلى حد ما.
ومع ذلك، ستبدو الأمور أكثر قتامة إلى حد كبير في غضون بضعة أشهر لثلاثة أسباب.
السبب الأول يتمثل في وقوع الصناعة تحت الضغط، إذ جادل قادة أكبر شركات مصنعة بأوروبا خلال الربيع، بأن قطع إمدادات الغاز الروسي بسرعة كبيرة سيجلب أزمة اقتصادية إلى القارة، لكن رغم ارتفاع الأسعار، ظل الإنتاج الصناعي قوي حتى الآن.
قال مايكل هوثر، من المعهد الاقتصادي الألماني، إن “جزء من السبب هو أن الشركات ما زالت تعمل على التخلص من تراكم الطلبات من الماضي”.
مع ذلك، فإن هذه الأعمال المتراكمة لن تدوم إلى الأبد، كما أن بعض المؤشرات التطلعية الحاسمة قاتمة.
قال روبن بروكس، من معهد التمويل الدولي، الذي يمثل البنوك والمؤسسات الاستثمارية: “الطلبات الجديدة مطروحاً منها المخزونات، والمقصود منها الطلبات على الشركات التي تبقيها مشغولة، تراجعت سريعاً، ومثل هذا الانخفاض قد يمثل نقطة تحول في الدورة الاقتصادية”.
لا شك أن هذا التراجع يعكس ضعف الاقتصاد العالمي، خصوصا الاقتصاد الصيني.
تشير الدراسات الاستطلاعية الأخيرة لرؤساء القطاع الصناعي في ألمانيا والنمسا إلى الانكماش، إذ يخاطر اعتماد ألمانيا غير الصحي على المشترين الصينيين بخفض الطلب على السلع عبر سلسلة الإمداد.
ويبدو أن الصناعة الإيطالية في حالة سقوط حر، كما أن بولندا والتشيك، اللتان تقعان خارج منطقة اليورو، معرضتان للخطر أيضاً، بينما تعد المجر استثناء، حيث يتوسع التصنيع بوتيرة صحية، وذلك بفضل الاستثمار في البطاريات وازدهار السيارات الكهربائية وعقود الطاقة طويلة الأجل رغم أن بعضها سينتهي قريباً.
ويتمثل السبب الثاني للكآبة في إنفاق المستهلكين على الخدمات، فقد أسهمت السياحة في تعزيز النمو خلال الصيف، بدعم من الموسم القوي في فرنسا وجنوب أوروبا، حيث استخدم المصطافون بشكل كبير مدخراتهم الوبائية.
مع ذلك، تتراجع المعنويات مع تقشف المستهلكين استعداداً لشتاء طويل بارد، بالتالي فإن الخدمات ستتعرض على الأرجح للركود خلال الأشهر المقبلة، إذ تواجه العقارات والنقل صعوبات شديدة بشكل خاص، وفقاً لمؤشر مديري المشتريات الصادر عن شركة “ستاندرد آند بورز جلوبال”.
وبالنسبة للسبب الثالث والأخير، فمن شبه المؤكد أن تتزامن صدمة الطاقة في أوروبا مع ارتفاع أسعار الفائدة، وأعلن البنك المركزي الأوروبي عزمة على إعادة التضخم السنوي إلى هدفه البالغ 2%، من النسبة المقلقة البالغة 9.1% المسجلة في أغسطس، وذلك بعد التقليل من تقدير الزيادات في أسعار الفائدة المقدمة من جانبه هو وبنوك مركزية أخرى في العالم.
ويتوقع الاقتصاديون أن يحاول البنك المركزي الأوروبي دعم أوراق اعتماده في مكافحة التضخم من خلال زيادة كبيرة في أسعار الفائدة في اجتماع السياسة المقرر في 8 سبتمبر، وربما يرفع أسعار الفائدة بمقدار 75.0%.
تشير التوقعات إلى ارتفاع العوائد على السندات الأوروبية قصيرة وطويلة الأجل في أغسطس الماضي.
ورغم ذلك، استمر اليورو في الانخفاض ووصل إلى مستوى التكافؤ مع الدولار للمرة الأولى منذ عقدين، وهذا يعكس التوقعات المتدهورة لاقتصاد أوروبا وقرار المستثمرين العالميين بالتحول إلى مكان آخر استجابة لذلك.
هذا الأمر أصبح مصدر قلق آخر بالنسبه لصُناع السياسات في القارة، حيث تعمل العملة الأضعف على تغذية التضخم من خلال الواردات الغزيرة، مما يضرب الدخل الحقيقي وبالتالي الاستهلاك.
وكل هذا يشير إلى أن الاقتصاد الأوروبي سيدخل بالتأكيد في حالة ركود، بقيادة ألمانيا وإيطاليا وأوروبا الوسطى والشرقية.
ويتوقع المحللون في بنك “جي.بي مورجان تشيس” تسجيل معدلات نمو سنوية بنسبة -2% لمنطقة اليورو بشكل عام في الربع الرابع من العام الجاري، و -2.5% لفرنسا وألمانيا و -3% لإيطاليا، بينما يمكن أن تثير متاعب إيطاليا ومستويات الديون المرتفعة اضطرابات في أسواق السندات الأوروبية.
لقد أمضى الساسة الأوروبيون الكثير من الوقت حتى الآن في التفكير في كيفية الاستجابة لارتفاع أسعار الطاقة، وقد يواجهوا قريباً أزمة أوسع نطاقاً.