سلطت الموجة الأخيرة من عمليات تخفيض قيمة العملة الضوء على الضغط الشديد الذى تتعرض له العديد من الاقتصادات الناشئة، حيث يجبرها الدولار الأمريكى القوى على إنفاق احتياطياتهم الأجنبية لدعم أسعار الصرف، وتخلت مصر وباكستان ولبنان عن السياسات طويلة الأمد المتعلقة بربط عملاتها بالدولار فى يناير.
ويحذر الاقتصاديون والمستثمرون من أن عدداً كبيراً من الأسواق الناشئة والحدودية قد تضطر للاستسلام إلى قوى السوق وأن تحذو حذوها، فى ظل استمرار قوة العملة الأمريكية تاريخياً رغم التراجع الطفيف الذى شهدته منذ أكتوبر الماضى.
وقال روبن بروكس، كبير الاقتصاديين فى معهد التمويل الدولى، إن أوكرانيا ونيجيريا والأرجنتين من بين الاقتصادات التى من المحتمل أن تعانى ضغوطاً على ربط عملتها، خاصة إذا أدى تصعيد الحرب الروسية فى أوكرانيا إلى إعادة إشعال الضغوط التضخمية، وبالتالى ارتفاع تكاليف الاقتراض فى العالم المتقدم وتحقيق مكاسب أخرى للدولار.
وأثارت بيانات التضخم والعمالة الأخيرة الصادرة عن الولايات المتحدة مخاوف الأسواق المالية من أن المستثمرين كانوا متفائلين للغاية بشأن المسار المستقبلى لأسعار الفائدة الأمريكية، وأن البنك الاحتياطى الفيدرالى ربما يبقيها مرتفعة لفترة أطول مما كان متوقعاً فى السابق.
وذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية أن الدول الثلاث التى خفضت قيمة عملتها حتى الآن هذا العام فعلت ذلك فى محاولة للحصول على التمويل الطارئ من صندوق النقد الدولى.
ويقول محللون، إنه مع تعرض 60% من الدول منخفضة الدخل لمخاطر الديون أو معاناتها منها بالفعل، وفقًا لصندوق النقد الدولى، ستُفرض مزيداً من الضوابط خلال العام الجارى.
وفقدت الروبية الباكستانية نحو خُمس قيمتها مقابل الدولار الأمريكى بعد أن خففت السلطات القيود فى 26 يناير، كما سمح البنك المركزى اللبنانى لعملته بالانخفاض بنسبة 90% مقابل الدولار فى الأول من فبراير، ليتراجع ربط العملة السارى منذ عام 1997، وبالنسبة للعديد من الدول ذات أسعار الصرف القوية بشكل مصطنع، فإن اتخاذ قرار بشأن تخفيض القيمة يعد خياراً غير مرغوب فيه.
ويؤدى الدفاع عن ربط العملات إلى استنفاد الاحتياطيات الأجنبية الشحيحة فى كثير من الأحيان، كما أنه يعيق النمو نظراً لتسببه فى جعل صادراتها أغلى، كما يؤدى تخفيض قيمة العملة إلى إذكاء التضخم بجعل الواردات أكثر تكلفة ويرفع تكلفة خدمة ديون العملات الأجنبية.
وزادت أوكرانيا، التى دُمر اقتصادها وخسرت عائداتها الحكومية بسبب الهجمات الروسية على البنية التحتية المدنية، تدخلاتها الشهرية فى أسواق العملات من 300 مليون دولار إلى 4 مليارات دولار بين شهرى فبراير ويونيو من العام الماضى.
وفى ظل نفاد الأموال، تركت البلاد الهريفنا الأوكرانية تتهاوى بنحو 25% مقابل الدولار الأمريكى فى يوليو، لكن البنك المركزى الأوكرانى أنفق مرة أخرى أكثر من 3 مليارات دولار شهرياً فى ديسمبر ويناير للدفاع عن الربط الجديد، مما أثار الحديث عن تخفيض جديد لقيمة العملة.
وقال فيكتور سزابو، من شركة إدارة الاستثمار “أبردن”، إن هذه لن تكون أفضل سياسة فى الوقت الحالى، فهى “لن تؤدى إلا إلى مزيد من التضخم وزيادة معاناة الناس”.
واستبعد البنك المركزى الأوكرانى هذا الأمر بشكل صريح، قائلاً إن التمويل الأجنبى سيساعد فى إبقاء الاحتياطيات فوق مستواها الحالى البالغ 30 مليار دولار خلال العام الجارى.
وفى الوقت نفسه، لن تتعامل تركيا على الأرجح فى أى وقت قريب مع ما يعتبره العديد من المحللين عملة قوية بشكل مصطنع نظراً للضغوط التضخمية الشديدة التى يواجهها السكان والتى قد تتفاقم بسبب الزلزال الأخير.
واستنفذت بقية الدول خياراتها، فقد استنزف البنك المركزى الغانى احتياطياته لدعم عملته لأعوام، وبالتالى تخلت الحكومة فى ديسمبر عن هذه الجهود وقالت بدلاً من ذلك إنها لن تخدم ديونها الخارجية بعد الآن، وأطلقت عملية إعادة هيكلة عقابية للدين المحلى، وخسر السيدى الغانى نصف قيمته المقومة بالدولار منذ ذلك الحين بعد أن ارتفع بقوة فى الفترة السابقة.
وربما تكون نيجيريا الدولة التالية، خاصة أن المحللين طالما قالوا إنها تمتلك نظام غير مستدام لأسعار الصرف المتعددة، ومن المتوقع أن يأتى التحول إلى نظام أبسط فى أعقاب الانتخابات المقررة فى 25 فبراير الجارى.
وتعليقاً على الأمر، قال سايمون كويجانو إيفانز، كبير الاقتصاديين فى شركة “جيمكورب كابيتال مانجمنت”: “تتوقع الأسواق بالتأكيد بعض التغيير، وإذا لم يحدث ذلك، فسيكون هناك المزيد من الضغط كالذى شهدناه خلال الأشهر الـ12 الماضية”، مثل نيجيريا وغانا، يجب على الدول النامية الأخرى فى أفريقيا وخارجها أن تفصل بشكل واضح بين السياسة المالية والسياسة النقدية، بحسب إيفانز.
وأوضح أنه بدلاً من الاعتماد على البنوك المركزية لدعم عملاتها أو شراء ديونها، يتعين على الحكومات موازنة أمورها من خلال الإصلاحات المالية بما فى ذلك الضرائب.
وأضاف أن هذا الأمر لا يتعلق بالمستثمرين فقط، بل يتعين على السكان المحليين البحث عنه باعتباره الطريقة الوحيدة للحصول على الوضوح والتأكد من عدم تعرضهم للتضخم أو التخفيضات المفاجئة فى قيمة العملة.