ثمة مفارقة تجري في قلب ما أصبح يُعرف بأزمة تكاليف المعيشة في بريطانيا، فمع استمرار تجاوز معدلات التضخم لحاجز الـ10%، قالت “سيتيزن أدفايس”، التي تقدم إرشادات مجانية في قضايا الديون ومخاوف المستهلكين الأخرى، أخيرًا إنها ساعدت عددًا قياسيًا يتجاوز الـ600 ألف شخص في الأشهر الأربعة الأولى من العام، بزيادة 6% عن الفترة ذاتها من 2022.
مع ذلك، لا تبلغ البنوك البريطانية سوى عن أدلة قليلة على تخلف عملائها عن سداد اقتراضهم.
زاد “لويدز”، أكبر بنوك الأفراد الرئيسة في الدولة، مخصصات الائتمان قليلاً في الربع الأول من العام، لكن حصيلة قروض العملاء الأفراد المصنفة باعتبارها ضعيفة ظلت مستقرة عند 1.2% فقط من الإجمالي، وارتفعت الأرباح بنحو 50% بفضل اتساع الفارق بين ما يدفعه البنك للمودعين وما يفرضه على المقترضين.
كما أبلغت بنوك أخرى عن اتجاهات مماثلة.
هذا النمط يحدث في أماكن أخرى من العالم.
نعم، شهدنا بعض الانهيارات المصرفية الدراماتيكية بين المجموعات المصرفية الإقليمية في الولايات المتحدة وفي سويسرا، لكنها كانت جهات مقرضة أفلست بسبب موجة سحب من المودعين المذعورين، والتنظيم المتساهل، والإدارة السيئة عمومًا.
لم تقع في ورطة للأسباب المملة التي ربما توقعتها، بل إن أسعار الفائدة المرتفعة أدت إلى عجز العملاء عن تحمل اقتراضهم.
يفسر التعارض جزئيًا بالتأثير المتأخر، إذ يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتخلف الفرد الذي لديه ميزانية محدودة عن سداد بطاقة الائتمان ولكي يظهر في النتائج الفصلية.
لكن مصرفيين وناشطين يفترضون على حد سواء تفسيرًا آخر، ألا وهو صرف أعداد متزايدة من الناس عن النظام المصرفي الرسمي وعزلهم عنه، لذا لا يظهر أنهم مقترضون يواجهون مشكلات في السداد.
نشرت “بلند”، منصة إقراض نظراء، بحثًا أخيرًا يشير إلى أن عدد الذين يشعرون بأنهم “معزولون” عن النظام المالي قفز بنسبة 40% العام الماضي، مع خفض البنوك الإقراض الأكثر خطورة، يشعر أكثر من ربع سكان المملكة المتحدة الآن بأنهم مستبعدون من النظام المالي والرقم يقارب النصف لمجتمعات السود والأقليات العرقية.
تجادل “يو كيه فاينانس”، مجموعة ضغط تمثل البنوك والمجموعات المالية الأخرى، بأن التنظيم جزء كبير من المشكلة.
الضوابط الصارمة على المخاطر والقيود المفروضة على المنتجات مرتفعة الفائدة استدعت اضطرار البنوك للتخلص من العملاء الأفقر.
في الوقت نفسه، كانت جهات إقراض الأموال غير الخاضعة للتنظيم أو شركات التكنولوجيا المالية الخاضعة لتنظيم ضعيف، مثل صناعة “اشتر الآن وادفع لاحقًا” المنتشرة، يملأون الفجوة.
أعرب ديفيد ليندبرج، رئيس قسم خدمات الأفراد في بنك “نات ويست”، في تصريحات أدلى بها لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، عن قلقه إزاء نمو نظام “ائتمان الظل”- وهي جهات غير مصرفية تقدم الائتمان- عالي التكلفة.
تلتزم حملة التثقيف والشمول المالي الخيرية المدعومة من “فاينانشيال تايمز” بتسليط الضوء على المشكلات الناجمة عن هذه العوامل المحركة ودعم تعليم مالي أفضل.
مؤسسة خيرية أخرى، “فير فور أول فاينانس”، التي تدير مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية المتروكة في حسابات مصرفية راكدة، تتدخل مباشرة في الأجزاء المفلسة من سوق الإقراض لتخفيف الضغط على الأفراد المثقلين بالديون.
أمضت الأشهر الأخيرة في إجراء دراسة أولية جنوب مانشستر، شملت الاتحادات الائتمانية المحلية والمنظمات غير الربحية، قدمت قروضًا بقيمة بضع مئات من الجنيهات الإسترلينية لكل قرض بلا فوائد للمحتاجين.
للتوسع على الصعيد الوطني، يعد دعم الجهات المقرضة الكبرى أمرًا ضروريًا، لكنها تأبى تقديمه.
يجادل المصرفيون بأن الفوائد المجنية من القدرة على تحمل تكاليف قرض ما بلا فوائد على شيء بأسعار تجارية ليست إلا فوائد ضئيلة، ما يجعل المبادرة غير ضرورية.
تقول مؤسسة “فير فور أول” إن هذا القول يفوته ذكر النقطة التي تفيد أن القرض دون فائدة يجلب الناس إلى النظام المصرفي السائد، الذين لولاه سيُرفض قبولهم كمقرضين، ما يمنحهم فرصة لبناء سجل سداد ائتماني.
وثلث أولئك في الدراسة الأولية ممن سددوا أموالهم صاروا مؤهلين لقروض تجارية.
من جانبها، تتعامل البنوك أخيرًا مع جانب آخر من الاستبعاد المالي وذلك في مبادرة لفتح 200 إلى 300 فرع مشترك، أو “مراكز مصرفية”، على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة في المواقع التي أغلق فيها آخر بنك، و “حتى الآن هناك خمسة”.
زعزعت الأحداث الدرامية الأخيرة في الولايات المتحدة وسويسرا ثقة العامة بالقطاع المصرفي للمرة الثانية في 15 عامًا.
وحتى لو لم تنتشر هذه المشكلات، فإن شروط الائتمان آخذة في التشديد بالفعل.
ومن الضروري، لكي يتم ترخيصها لأداء أعمالها، أن تضمن البنوك- وصًناع السياسات الذين يوجهونها- أن إدارة مخاطر الائتمان مدروسة ولا تتبع استراتيجية استبعاد الناس من النظام المالي.
بقلم: باتريك جنكينز، كاتب مقالات رأي لدى “فاينانشيال تايمز”
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية