ثمة مقدسات فى قطاع الطاقة التقليدية تحرم مجرد الإشارة إلى أن الطلب على أنواع الوقود الأحفورى بأنواعه الثلاثة، النفط والغاز والفحم، يمكن أن ينخفض بشكل دائم.
ورغم الحديث المتكرر عن ذروة الطلب على النفط والفحم على مر السنين، فإن الطلب على كلا النوعين من الوقود يصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، ما يجعل من السهل التصدى لأى تأكيدات بأنهما قد يتراجعان قريبًا.
ولكن وفقا لتوقعات جديدة صادرة عن وكالة الطاقة الدولية، فإن عصر النمو الذى يبدو بلا هوادة، يقترب من نهايته هذا العقد، حاملًا معه آثارًا كبيرة على قطاع الطاقة العالمى ومكافحة تغير المناخ.
في كل عام، تحدد توقعات الطاقة العالمية الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية المسارات المحتملة التى يمكن أن يتخذها نظام الطاقة العالمى في العقود المقبلة للمساعدة في اتخاذ القرار.
ويُظهر تقرير هذا العام، الذي سيصدر الشهر المقبل، أن العالم على أعتاب نقطة تحول تاريخية. واستناداً فقط إلى السياسات التى تتخذها الحكومات في جميع أنحاء العالم اليوم – حتى دون أي سياسات جديدة لمكافة التغيرات المناخية – فمن المتوقع أن يصل الطلب على كل نوع من أنواع الوقود الأحفورى الثلاثة إلى ذروته فى السنوات المقبلة.
هذه هى المرة الأولى التي تظهر فيها ذروة الطلب على كل نوع من الوقود خلال هذا العقد – في وقت أبكر مما توقعه كثير من الناس.
ومن شأن هذه التحولات الملحوظة أن تعجل ببلوغ ذروة انبعاثات الغازات الدفيئة على مستوى العالم. وهى مدفوعة فىى المقام الأول بالنمو المذهل لتقنيات الطاقة النظيفة مثل الألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية، والتحولات الهيكلية فى اقتصاد الصين وتداعيات أزمة الطاقة العالمية.
ظل الطلب العالمي على الفحم مرتفعا بشكل عنيد خلال العقد الماضى، لكنها من المقرر الآن أن تبلغ ذروتها فى السنوات القليلة المقبلة، مع جفاف الاستثمارات الكبيرة خارج الصين، حيث تهيمن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على التوسع فى أنظمة الكهرباء.
وحتى في الصين، أكبر مستهلك للفحم في العالم، يشير النمو المذهل لمصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية، بجانب تباطؤ الاقتصاد، إلى انخفاض فى استخدام الفحم قريباً.
وأشار بعض النقاد إلى أن الطلب العالمى على النفط ربما بلغ ذروته بعد انخفاضه خلال الوباء، ورغم أن وكالة الطاقة الدولية ظلت حذرة من مثل هذه النبوءات المبكرة، لكن أحدث توقعاتنا تظهر أن نمو السيارات الكهربائية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الصين، يعني أن الطلب على النفط في طريقه إلى الذروة قبل عام 2030.
إن “العصر الذهبي للغاز”، الذي تحدثنا عنه فى عام 2011، يقترب من نهايته، مع توقع انخفاض الطلب في الاقتصادات المتقدمة خلال وقت لاحق من هذا العقد.
ويرجع ذلك إلى تفوق مصادر الطاقة المتجددة بشكل متزايد على الغاز فى إنتاج الكهرباء، وظهور المضخات الحرارية، وتحول أوروبا المتسارع بعيداً عن الغاز في أعقاب الغزو الروسى لأوكرانيا.
ولعل بلوغ ذروة الطلب على الوقود الأحفورى مشهد مرحب به على نطاق واسع، ما يدل أن التحول إلى أنظمة طاقة أنظف وأكثر أمانًا يتسارع وأن الجهود المبذولة لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ تحرز تقدما. ولكن ثمة بعض القضايا الهامة التى يجب أن نأخذها فى الاعتبار.
فبادئ ذي بدء، إن الانخفاضات المتوقعة فى الطلب التى ليست حادة بالدرجة الكافية لوضع العالم على المسار الذي يؤدى إلى الحد من الاحتباس الحرارى العالمى بحيث لا تتجاوز درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية. وسيتطلب ذلك إجراءات سياسية أقوى وأسرع بكثير من جانب الحكومات.
من المتوقع أن يتباين الطلب على أنواع الوقود المختلفة بشكل كبير بين الأقاليم الجغرافية المختلفة، وسيتم تعويض الانخفاض فى الاقتصادات المتقدمة جزئيًا من خلال النمو المستمر فى بعض الاقتصادات الناشئة والنامية، وخاصة بالنسبة للغاز.
ولكن الاتجاهات العالمية واضحة: فالكهرباء وأنواع الوقود المنخفضة الانبعاثات، فضلاً عن تحسين كفاءة استخدام الطاقة، تعمل على نحو متزايد على تلبية احتياجات العالم المتزايدة من الطاقة.
كما أن الانخفاضات في الطلب لن تكون ثابتة، فرغم أن الوقود الأحفورى من المقرر أن يصل إلى ذروته هذا العقد من الناحية الهيكلية، لكنه لا يزال من الممكن أن يكون هناك ارتفاعات وانخفاضات فى الطريق إلى الانخفاض.
على سبيل المثال، يمكن لموجات الحر والجفاف أن تتسبب في قفزات مؤقتة فى الطلب على الفحم من خلال زيادة استخدام الكهرباء مع ضعف إنتاج الطاقة الكهرومائية.
وحتى مع انخفاض الطلب على الوقود الأحفورى، فإن تحديات أمن الطاقة ستظل قائمة رغم تكيف الموردين مع التغيرات، فذروة الطلب المتوقعة لا تلغى الحاجة إلى الاستثمار فى إمدادات النفط والغاز، حيث أن الانخفاضات الطبيعية فى الحقول الحالية يمكن أن تكون حادة للغاية.
ومع جلب السياسات الحالية الطلب على الوقود الأحفورى نحو ذروته، يتعين على صناع القرار أن يتحلوا بالذكاء، وقد يتسارع التحول إلى الطاقة النظيفة بشكل أكبر من خلال سياسات مناخية أقوى، لكن عالم الطاقة يتغير بسرعة وإلى الأفضل.
المصدر: فاينانشيال تايمز
الكاتب:فاتح بيرول، الرئيس التنفيذى لوكالة الطاقة الدولية