تعانى مصر أزمة عملة منذ ما يقرب من عامين نتيجة التشديد النقدى العالمى والحرب المستمرة فى شرق أوروبا منذ العام الماضى.
وجربت الحكومة عددًا من الحلول للتعامل مع المشكلة التى استفحلت بمرور الوقت، وشمل ذلك تقييد الواردات والاستعانة بصندوق النقد الدولى وخفض سعر الجنيه 3 مرات خلال أقل من 12 شهرًا، مما أفقده أكثر من نصف قيمته أمام الدولار.
لكن رغم ذلك فشلت تلك الإجراءات فى حل المشكلة، وانتعشت سوق غير رسمية للعملة الأجنبية بأسعار تزيد بأكثر من 60% على الأسعار الرسمية التى ثبتها البنك المركزى منذ مطلع العام الحالى، وسط نقص العملة الذى دفع مؤسسات التصنيف الائتمانى لخفض تصنيفاتها لمصر، مع تزايد الشكوك حول قدرة البلاد على سداد التزاماتها الأجنبية الضخمة فى الأجل المنظور.
وطرأ عدد من المتغيرات على لهجة صندوق النقد بشأن سعر الصرف مؤخرًا، إذ عبرت كريستالينا جورجيفيا عند دعم الصندوق لمصر ونيته لزيادة حجم القرض لتلافى تداعيات حرب غزة.
واعتبرت جورجيفيا أن كبح التضخم هو الأولوية، وهو أمر مغاير لتصريحها فى أكتوبر الماضى على هامش اجتماعات الصندوق والبنك الدوليين بمراكش أن مصر تستنزف احتياطياتها الثمينة بتثبيت سعر الصرف.
محلل: دعم صندوق النقد والمُقرضين الدوليين شرط أساسى لاحتواء الأزمة
لكن محلل اقتصادى قال لـ”البورصة”، إن الأمر لم يعد رغبة الصندوق فقط وخلاف على صرف الشريحة، لكن السوق بالفعل بات يُسعر مستويات أعلى بكثيرمن سعر الصرف الرسمى، وذلك يحرم الدولة من حصيلتها الدولارية.
أضاف أنه ليس هناك تعارض بين كون الجنيه مُقيم بأقل من قيمته الحقيقية وفق مقياس سعر الصرف الحقيقى الفعًال وارتفاعه فى السوق الموازية لأن أساسات الاقتصاد جميعها تشير إلى أنه فى الظروف الطبيعية من المفترض ألا يصل لتلك المستويات.
تابع: “كما أن تقييم 24.5 جنيه للدولار العام الماضى كان مبنيا على مستويات تضخم أقل فى مصر وأعلى لدى الشركاء التجاريين، لكن حتى الجنيه فى مقياس سعر الصرف الحقيقى بات أقل من التقديرات السابقة مع وصول التضخم لمستويات قياسية”.
وذكر أن سعر السوق يحدده ثقة المتعاملين فى الاقتصاد والتى تسمح بناء عليه باستشراء ممارسات المضاربة من عدمها، وأن الثقة تقل كلما تأخرت الحكومة فى اتخاذ خطوة سعر الصرف تمامًا كما كان الحالى فى 2016.
وتوقعت شركة “إتش سى” للأوراق المالية خفض الجنيه 19% خلال العام المالى الحالى، فى ظل استمرار نقص السيولة الأجنبية وقيود الواردات وخفض التصنيف الائتمانى، وتأجيل مراجعات برنامج صندوق النقد.
وقدرت أن الفجوة بين سعر الصرف الرسمى وسعر الصرف الحقيقى الفعال قد اتسعت من 18% فى يناير 2023 إلى 31% فى نهاية 2023.
أوضح المحلل أن الحل فى الوقت الحالى هو أن تتزامن خطوة تحرير سعر الصرف مع دعم قوى من الصندوق ومن المقرضين متعددى الأطراف، وتنفيذ صفقات كبيرة فى برنامج الطروحات، وأن تُصفى البنوك قوائم الانتظار لطالبى العملة الأجنبية مباشرة بعد تحرير سعر الصرف وأن تستمر فى توفير السيولة لفترة جس النبض التى ستتبعها الأسواق.
وذكر أنه لاستعادة مستويات الثقة على المدى الطويل يجب استهداف مؤشر عجز الحساب الجارى ومعالجة الخلل المزمن به، وقد يكون ذلك من خلال تنفيذ استراتيجية للاستفادة من الميزة النسبية لمصر فى صناعات مثل الهيدروجين، وأيضًا زيادة فرص المستثمرين الأجانب لإعادة استثمار أموالهم فى مصر بدلًا من تحويلها.
وخلال العام المالى الماضى قام الأجانب بتحويل 8.5 مليار دولار أرباح، بعد استبعاد مدفوعات الفوائد على السندات والأرباح المُرحلة التى يتم الاعتراف بها كمصروفات فى الميزان الجارى وتدفقات فى الميزان الرأسمالى.
ويرى المحلل أنه لابد من أن تقوم بمصر باتخاذ إجراءات تحد من عجز الموازنة خاصة أن تحقق أكثر من نصف العجز المستهدف للسنة المالية خلال الربع الأول فقط مؤشر مُقلق، وأن زيادة مدفوعات الفوائد عن الإيرادات قد يخفض قدرة مصر على الاستدانة من الخارج فى ظل خفض تصنيفها الائتمانى بالفعل.
لكن مؤخرًا أدت الإشارات الإيجابية من صندوق النقد لتحسن تكلفة التأمين على الديون السيادية لمصر التى انخفضت فى العقود أجل 5 أعوام إلى أدنى مستوى منذ يونيو 2023 عند 12.4% فيما تراجعت فى العقود أجل عام إلى 9.77%.
حمدى: لابد من وجود استثمارات أجنبية لتوفير سيولة دولارية
وقال هشام حمدى، المحلل المالى بشركة نعيم، إن المقوم الرئيسى لجعل ذلك التعويم ناجح هو تدفق استثمارات خارجية ومن ثم حدوث وفرة فى السيولة الدولارية، والقضاء على شح العملة وبالتالى القضاء نهائيا على السوق الموازية لسعر الصرف.
وترى آية زهير، رئيس قسم البحوث بشركة زيلا كابيتال، أن وجود سيولة دولارية تمثل المقوم الأساسى لنجاح تحرير سعر الصرف وهو ما تسعى له الحكومة خلال الفترة الحالية.
أشارت إلى أن الحكومة تسعى لعقد صفقات تجارية لمبادلة السبع بالعملات المحلية لتخفيف الضغط على العملة الصعبة، فضلاً عن الأنباء بدخول استثمارات إماراتية وسعودية إلى السوق المحلى ووجود استثمارات أجنبية مباشرة أخرى.
ومنذ مارس الماضى، شهد سعر صرف الدولار فى السوق الرسمى حالة من الاستقرار والثبات منذ تحرير سعره فى يناير من العام الحالى، ليستقر سعره عند 30.84 جنيه للشراء و 30.93 جنيه للبيع
وكان الدولار قد ارتفع فى العقود الآجلة للجنيه لمستويات قاربت الـ50 جنيها لكنه عاد وانخفض إلى ما بين 46.9 و47.1 جنيه فى العقود أجل عام، وتراجع فى السوق الموازية لمستويات ما بين 48 و49 جنيها بعدما قد جاوز الـ53 جنيها للدولار.
ووفق حسابات بنك الاستثمار “سوسيتيه جينرال” فإن صندوق النقد يسعر الجنيه عند 39.61 جنيه للدولار، فيما توقع البنك أن ينخفض الجنيه إلى 37 جنيها للدولار.
وقال إنه فى ظل احتدام الضغوط الخارجية، وزيادة احتمالات أن يكون خفض العملة خارج عن السيطرة وهو ما ستسعى السلطات لتجنبه فإنَّ البنك المركزى سيسرع فى تنفيذ ذلك الإصلاح الهيكلى.
وأشار البنك إلى وجود فجوة كبيرة بين كل الأصول المقومة بالعملة الأجنبية والالتزامات بالعملة الأجنبية، وهو ما لا تظهره بيانات صافى الأصول الأجنبية منفردة.
وقدَّر البنك الفجوة عند نحو 59.2 مليار دولار بناءً على الفارق بين الأصول الأجنبية، والتى تشمل القطاع المصرفى والودائع غير المدرجة فى الاحتياطيات الأجنبية بجانب الاحتياطيات الرسمية، والتى بلغت 60.6 مليار دولار فى يونيو 2023، والالتزامات التى قدرها بنحو 132.2 مليار دولار بناءً على الالتزامات الأجنبية لدى البنك المركزى ولدى البنوك، بالإضافة للدين الخارجى.
فى حين توقعت وكالة التصنيف الائتمانى فيتش أن يتراوح بين 40 إلى 45 جنيها للدولار، وتوقعت وكالة ستاندرد أند بورز أن ينخفض إلى 40 جنيها للدولار.
وأشار حمدى إلى أنه من خلال المؤشرات خلال الفترة الحالية، أنه عند حدوث تحرير رسمى للسعر المحلى، من المتوقع أن لا يزيد سعر الدولار عن 40 جنيها.
فيما توقعت رئيس قسم البحوث بشركة زيلا كابيتال أن يتراوح سعر بين 37 إلى 40 جنيها.
محللة: البنوك العامة قد تحمل عبء التشديد الموازى لخفض العملة مع استحقاق شهادات الـ25%
وقالت محللة اقتصاد كلى بأحد بنوك الاستثمار، إن رفع الفائدة رغم المدفوعات الكبيرة لفوائد الديون لن يكون اختياريًا أيضًا لاحتواء الضغوط التضخمية.
لكنها ذكرت أن البنوك العامة قد تطرح شهادات مرتفعة العائد لفترة قصيرة من جديد مع استحقاق شهادات الـ25%، ويدفع ذلك المركزى لرفع الفائدة بوتيرة أقل.
ويؤثر سعر الصرف بشكل مباشر على النشاط الاقتصادى إذ يعيق تدفق الاستثمارات الأجنبية نتيجة عدم اليقين بحسب ما أشار تقرير شركة إتش سى للأوراق المالية.
وقدرت أن صافى الاستثمار الأجنبى المباشر لمصر سينخفض 23% خلال العام المالى الحالى ليسجل 7.8 مليار دولار بما يعكس التأخير فى برنامج بيع الأصول، وعدم اليقين بشأن سعر الصرف.
كما أكد رجل الأعمال، نجيب ساويرس، أن وجود 4 أسعار للصرف يعرقل قراراته الاستثمارية، وأنه لا سبيل أمامه للتكهن بمستقبل الجنيه قائلًا: “مستقبله يعلمه الله وحده”.
وفى أحدث بيانات مُعلنة من وزارة التخطيط تباطأ نمو الاقتصاد المصرى خلال الربع الأخير من العام المالى الماضى إلى 2.9% وهو أدنى مستوى منذ الربع الثالث من 2021، فيما يستمر القطاع الخاص غير المنتج للنفط فى الانكماش.