اختر ما شئت من الأزمات، وستجد أنها ستبين لك بجلاء هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، لكن إن جمعت بين تغير المناخ والانفصال عن الصين والتطور التقنى غير المسبوق والحروب وارتفاع التكاليف ونقص العمالة، فستجد مزيجاً من العوامل المحفّزة سيغير التجارة العالمية للأفضل.
تُعتبر جائحة “كورونا” سبباً رئيسياً فى عدد من الاضطرابات على مدى السنوات الأربع الماضية.
تسبب توقف رحلات الطيران وإغلاق المصانع فى الصين وارتفاع الطلب على منتجات بعينها بانهيار سلاسل الإمداد، لكن مكامن الضعف كانت موجودة أصلاً، وكان يخفيها تفاعل مرتجل فى الأغلب بين شركات التصنيع والشحن والخدمات اللوجستية وتجار التجزئة.
رغم ذلك، فإن ما تعلمناه من جائحة كورونا هو أن استراتيجيات الحصول على مخزون فى الوقت المناسب، أى الاحتفاظ بما نحتاج إليه آنياً فقط، ليست قوية بما يكفى للتعامل مع أى وضع يخرج عن المألوف.
من قبيل المفارقة، كانت شركة “تويوتا موتور” من أوائل رواد نهج الاحتفاظ بمخزون ضئيل، لكنها تركت هذه المقاربة الضيقة دون إعلان قبل نحو عقد.
نتيجة لذلك، تمكنت صانعة السيارات اليابانية من تجاوز أزمة نقص الرقائق دون أن تتأثر نسبياً، فيما اتجهت الشركتان المنافستان “جنرال موتورز” و”فورد موتور” لتعديل منتجاتهما وأوقفتا خطوط إنتاج فى مصانعهما للتكيف مع نقص الأجزاء.
ضرورة التغيير
مر قطاع التقنية بعملية إعادة تفكير مشابهة، برزت فى ذلك “أبل”، وكانت “تايوان سيميكوندكتور مانوفاكتشورينج” و”فوكسون تكنولوجى جروب” أمثلة رئيسية على مزودى سلاسل الإمداد ممن أجروا تعديلات قبل أن تصبح مطلوبة بفترة طويلة.
تبدأ عملية تصنيع هاتف “أيفون” فى مراحلها الأولى عبر توفير “تايوان سيميكوندكتور مانوفاكتشورينج” للرقائق ثم تجميع “فوكسكون” للأجهزة قبل أن تبدأ “أبل” فى التعامل مع الخدمات اللوجستية والمبيعات.
على مدى العقد الماضى، زادت الشركات فى كل من المراحل الأولية والوسيطة والنهائية فى سلسلة الإمداد حجم المخزون الذى تحتفظ به إلى الضعف تقريباً.
ساهم توسيع نطاق الاحتياطيات فى جميع القطاعات من السيارات وحتى الهواتف الذكية فى تخفيف تداعيات الصدمات التى تحدث مرة واحدة، مثل إغلاقات كورونا ونقص العمالة والحرب، لكن الأحداث الأخيرة تثبت أن المخزونات وحدها لا تكفى كى نتخطى الأزمات.
يعتمد الاقتصاد العالمى الحديث على اعتقاد آدم سميث بشأن السوق الحرة، وهو أنه على الدول أن تركز على ما تتفوق فيه بشكل أفضل نسبياً، بدلاً من أن تنشئ حواجز حمائية وتحاول تصنيع كل المنتجات محلياً.
وردت أطروحة سميث فى كتابه الملهم “ثروة الأمم”، وفعلاً جلب تبنى تحرير التجارة فى أواخر القرن العشرين ثراءً لدول كثيرة وانتشل مليارات الناس من الفقر.
نظام محورى
كانت النتيجة نظاماً محورياً للإنتاج العالمى، وكانت الصين مركزه.
اكتسب ذلك النموذج زخماً بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وتمتع العالم بفترة سلام نسبى، لكن ذلك كان ممكناً فقط بسبب شبكة الطيران العالمى والنقل البحرى الآخذة فى التوسع سريعاً.
كانت الطائرات الضخمة والسفن الأضخم تعنى أن تصنيع كل شيء فى مكان واحد ثم نقله لمنطقة أخرى فى العالم بات أسرع وأرخص، مقارنة بمحاولة الإنتاج المحلى فى موقع أقرب للسوق النهائية. يبدو أن سميث كان محقاً.
كانت أولى الإشارات إلى أن هذا النموذج هش بأكثر مما ينبغى هى توقف شبه كامل لرحلات الركاب منذ بداية الجائحة فى 2020.
على الجانب الآخر من العالم، يتسبب تغير المناخ فى موجات الجفاف وتباطؤ حركة الملاحة عبر قناة بنما التى تربط آسيا بشرق أمريكا.
وقد تكون الشكوك المتنامية بين الولايات المتحدة والصين نعمةً منقذةً.
خفوت دور الصين
يعلم الشراة الدوليون منذ فترة طويلة أن وضع البيض كله فى سلة واحدة من حيث الإنتاج له مخاطر، لكن التوترات المتزايدة، بما فيها الحرب التقنية الباردة، دفعت العملاء والموردين للاتجاه بعيداً عن الصين نحو الهند وفيتنام والمكسيك.
لن تحل أى من هذه الدول الثلاث محل الصين، لكن علينا أن نتوقع تراجع نسبة المنتجات الصادرة من ثانى أكبر اقتصادات العالم على مدى الأعوام المقبلة.
سيتجه جانب من هذا النشاط إلى الهند، التى تحمل لقب أكبر دولة من حيث التعداد السكانى الآن، لكن زمن المصانع العملاقة، مثل التى نشأت فى مدينتى شينجن وجنغجو الصينيتين، قد ولّى، وستحتاج شركات الخدمات اللوجستية لأن تتكيف مع الوضع أيضاً.
كانت الرحلات من موانئ مثل شنغهاى إلى مقاصد فى الولايات المتحدة مثل لوس أنجلوس يوماً إحدى أكثر المسارات ازدحاماً فى صناعة النقل البحرى.
وسمح ذلك لشركات الشحن بأن تنقل أكثر من 20 ألف حاوية على ظهر ناقلة واحدة، فجلب ذلك وفورات لا سابق لها نتيجة ضخامة الإنتاج.
تلاشت هذه الفائدة على مدى السنوات القليلة الماضية، لأن الصين لم تعد مصدراً للعمالة الرخيصة، بل إنها تعانى فى أحيان كثيرة من نقصها.
تكيف مع الوضع
أما الآن، فإن المسارات داخل آسيا، التى تربط بين دول مثل كمبوديا والفلبين وفيتنام، هى الأكثر ازدحاماً.
ينقل جانب كبير من هذه الحركة ببساطة السلع الوسيطة إلى المصنع التالى فى سلسلة التصنيع، فيما يمثل جانب من هذه الحركة أن الدول الآسيوية تُعد الآن مستهلكاً رئيسياً للإنتاج العالمى.
سيدفع تنويع النقل إلى موانئ أصغر فى المنطقة إلى نقل حمولات أخف على متن عدد أقل من السفن.
نتيجة لذلك، سيتحتم على صناعة النقل البحرى أن تتعامل مع سلسلة إمداد تتكون من عدد أكبر من الموانئ التى تربط بين عدد أكبر من المصانع ينتج كل منها عدداً أقل من السلع.
إن الأزمات التى دفعت سلاسل الإمداد إلى نقطة الانهيار سلطت الضوء على الحاجة الماسّة للتغيير، وسيؤدى ذلك إلى إطار عمل أقوى وأكثر توازناً للتجارة والتصنيع على مستوى العالم.