فشل بعض الشركات قد يؤدى إلى أزمات ديون وإفلاس وعقد من التنمية الضائعة
لعقود، كانت أكبر المخاوف المتعلقة بالبترول تتركز على إمداداته.
فقد تعلم العالم الدرس لأول مرة قبل نصف قرن، عندما حظرت الدول العربية الأعضاء فى منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك»، التصدير إلى الولايات المتحدة والداعمين الأخرين لإسرائيل أثناء الصراع العربى الإسرائيلى.
وربما تعتقد اليوم، أنَّ العلاقة بين الطاقة والجغرافيا السياسية قد انقطعت لحسن الحظ، فقد ظلت أسواق البترول هادئة إلى حد كبير، حتى مع نشوب الحرب من جديد فى الشرق الأوسط وغزو روسيا لأوكرانيا الذى جعلها منبوذة فى الغرب.
لكن فى الواقع، ثمة مرحلة جديدة بدأت، إذ سيكون الطلب على البترول، وليس العرض، هو المؤثر الرئيس على أسواق الطاقة، وهذا التحول سيجلب معه عواقب جيوسياسية حادة.
تصمم الحكومات فى كل مكان سياسات تهدف إلى الحد من الطلب على البترول وتعزيز مصادر الطاقة البديلة، فى إطار سعيها لمكافحة التغيرات المناخية، إذ أصبحت تقنيات مثل تلك المستخدمة فى السيارات الكهربائية أرخص وأكثر تقدماً.
ويشير تقرير مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية، إلى أن الذروة المقبلة للطلب العالمى على البترول والانخفاض اللاحق لها سيحددان الأسعار والإنتاج على مدى العقود المقبلة.
وعلى العكس من ذلك، فإن هذا التحول سيمنح بعض المنتجين قوة سوقية أكبر، إذ توجد أكبر احتياطيات البترول وأقلها انبعاثاً للكربون وأرخصها على الإطلاق فى المملكة العربية السعودية وجيرانها المباشرين فى منظمة أوبك بالخليج العربى. ومع انكماش سوق البترول، فإن حصتها من الإنتاج سترتفع.
واعتماداً على وتيرة تحول الطاقة، يمكن لهذا التجمع أو «الكارتل» أن يحظى بحصة سوقية تبلغ نصف أو حتى ثلثى الإنتاج العالمى بحلول 2050، وفقاً لشركة البترول البريطانية «بى بي»، مقارنة بأقل من 40% اليوم.
أصبحت دول منها الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بالفعل، موطناً لبعض أكبر صناديق الثروة السيادية فى العالم. فهى تنشط بشكل كبير فى استثمار رؤوس الأموال وتأثيرها فى منطقة الجوار وما حولها، ولا شك أن أكوام رؤوس أموالها، ورغبتها فى إبراز قوتها فى الخارج، ستزداد حدة.
فى الوقت نفسه، ستتخلف القوى البترولية الأخرى عن الركب. فاليوم تضخ شركات البترول الوطنية فى عشرات الدول بأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، بترولاً أعلى تكلفة وأكثر انبعاثاً للكربون مقارنة بالبترول الموجود فى الخليج.
وتشير أحد المقاييس إلى أنه قد يتضح أن نحو 1.2 تريليون دولار من استثمارات شركات البترول الوطنية المخطط لها فى العقد المقبل، والتى تبلغ 1.8 تريليون دولار، غير مربحة إذا أوفت الدول بتعهداتها الرسمية بتحقيق الحياد الكربونى بحلول 2050.
وتأتى شركات «إن إن بى سي» النيجيرية و«بيميكس» المكسيكية و«برتامينا» الإندونيسية، ضمن الشركات الأكثر عُرضة لخطر التعثر فى الأصول التى تعانى من خفض لقيمتها أو شطب غير متوقع.
وفى ظل اعتماد حكومات العديد من الدول المنتجة للبترول فى الغالب على عائدات السلع الأساسية بشكل غير مبرر، فإن فشل بعض شركات البترول الوطنية قد يؤدى إلى أزمات الديون والإفلاس وعقد من التنمية الضائعة. وهذا من شأنه أن يكون صورة طبق الأصل لأزمات الديون التى اجتاحت أمريكا اللاتينية فى الثمانينيات، بعد أن أدى ارتفاع أسعار البترول إلى اتساع العجز التجارى للدول المستوردة وشل قدرتها على سداد ديونها.
كيفية إدارة هذا الاضطراب؟
يعتبر تسريع التحول فى مجال الطاقة أمراً ضرورياً لمعالجة تغير المناخ. لكن كلما كان التحول أسرع، أصبح تركيز قوة السوق أسوأ، وتعاظمت الصدمة التى يتعرض لها المنتجون ذوو التكلفة العالية.
وفى غضون ذلك، يمكن لآليات التكيف، مثل احتياطيات البترول الاستراتيجية للحكومات، أن تساعد فى الحد من التقلبات التى يتعرض لها مستهلكو البترول.
ولا بد من توسيع قاعدة هذه الدول لتشمل الدول النامية الكبرى فى آسيا وأفريقيا، والتى ستتجاوز الصين قريباً لتصبح أكبر المساهمين فى نمو الطلب على البترول.
وتعمل وكالة الطاقة الدولية، وهى الهيئة الرسمية التى أنشئت فى أعقاب الصدمة البترولية الأولى، على تنسيق المخزونات الاستراتيجية التى تحتفظ بها الاقتصادات المتقدمة، ويجب تعزيز مفاوضاتها الجديدة مع الهند لتشمل اقتصادات ناشئة كبرى أخرى أيضاً.
صحوة الخام
فى الوقت نفسه، بالنسبة للمنتجين غير المحظوظين، يجب أن تكون الأولوية هى التنويع بينما تظل أسعار البترول مرتفعة نسبياً والطلب قوياً.
فهناك عدد قليل منها، بدءاً من شركة «إيكوبترول» الكولومبية إلى «بتروناس» الماليزية، تنفق بالفعل حصة كبيرة من ميزانياتها الرأسمالية على التكنولوجيات منخفضة الكربون، مثل مصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين والتقاط وحتجاز الكربون، التى يمكن أن توفر وسيلة للتحوط ضد انهيار البترول.
ومع ذلك، تخصص شركات البترول الوطنية بالكاد 5% فى المتوسط من إنفاقها الرأسمالى للتنويع، بينما تنفق شركات البترول الكبرى فى الغرب 15%.
علاوة على ذلك، يتعين على الحكومات أن تسعى إلى ضمان قدرة الاقتصادات على التنويع بعيداً عن البترول، من خلال وضع قواعد تُسهل الأعمال التجارية والاستثمار فى مجالات مثل البنية التحتية والتعليم، للسماح للمؤسسات الخاصة بالازدهار.
وحتى مع ذلك، فإن بعض البلدان قد تحتاج فى النهاية إلى عمليات إنقاذ، ما يضع المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف تحت ضغوط إضافية.
يذكر أيضاً أن الصدمات البترولية التى قادها العرض خلال نصف القرن الماضى كانت مصدراً متكرراً للاضطرابات الجيوسياسية.
وحال عدم التعامل مع المرحلة الانتقالية المستقبلية بمزيد من البصيرة، فإن نصف القرن المقبل لن يكون أقل توتراً.