تعتبر البنوك المركزية مهنة تكنوقراطية نموذجية، ويجب أن يسترشد واضعو أسعار الفائدة بالبيانات، وأن يحذروا من اتخاذ قرارات غير عقلانية.
وهذا صعب بشكل خاص فى الوقت الحالى. ويُعتقد على نطاق واسع أن بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، والبنك المركزى الأوروبى، وبنك إنجلترا، وصلت إلى ذروة أسعار الفائدة، بعد أن احتفظت بسياساتها لعدة أشهر.
ولكن مع حدوث عملية تباطؤ التضخم الآن على نحو متقطع، أصبح ثمة انزعاج مفهوم حول متى نبدأ فى خفض الفائدة؟
أحد المخاوف المهيمنة هو حدوث «موجة ثانية» من التضخم، إذا تم تخفيض الفائدة وعاد نمو الأسعار إلى الارتفاع ـ كما حدث فى الولايات المتحدة فى السبعينيات ـ فإنَّ ذلك من شأنه أن يقوض مصداقية محافظى البنوك المركزية.
ويلومهم كثيرون بالفعل على تباطؤهم الشديد فى رفع أسعار الفائدة فى المقام الأول.
ويشير بعض مراقبى البنوك المركزية إلى أنه قد يكون ثمة أيضاً «خوف من اتخاذ القرار أولاً» – إذ تفضل لجان السياسة النقدية الانتظار حتى يبدأ بنك الاحتياطى الفيدرالى، فى التيسير داخل أكبر اقتصاد بالعالم. ويتعين على واضعى الأسعار أن يكونوا ثاقبى النظر قدر الإمكان. ومع وجود معدل التضخم الأساسى عند نحو 3 ـ 5% فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو، فلا يزال ثمة كثير من العمل الذى يتعين القيام به.
ولكن مع الموقف التقييدى للغاية للسياسة النقدية، وتزايد علامات التباطؤ فى أسواق العمل، فإن خطر الإفراط فى تشديد السياسة النقدية آخذ فى الارتفاع.
وهذا يعنى أن محافظى البنوك المركزية قد يحتاجون إلى البدء فى التخفيضات فى وقت أقرب مما يعلنونه حاليًا، خصوصاً أن تأثير تغيير أسعار الفائدة يأخذ بعض الوقت ليظهر.
وبعد تلويحه بأنهم جاهزون لخفض الفائدة لكن الوقت لم يحن بعد، فمن المرجح أن يبقى بنك الاحتياطى الفيدرالى سياسته دون تغيير فى اجتماعه الأسبوع الحالى.
لقد حددت الأسواق موعد الخفض الأول فى شهر يونيو. ومع بقاء معدل التضخم السنوى أعلى من 3% هذا العام، وارتفاعه فى فبراير، فقد يكون الحذر مبرراً.. لكن المؤشرات التضخمية المستقبلية بدأت تضعف.
أظهرت البيانات الأسبوع المنتهى انخفاضاً مستمراً فى نوايا التوظيف للشركات الصغيرة ـ وهو مؤشر قوى لنمو الأجور ومطالبات البطالة.
وكان مسح مؤشر مديرى المشتريات لأسعار المنتجات أظهر ضمنياً تراجع الضغوط فى المستقبل.
ومع وصول معدل التضخم الأساسى إلى 5.1%، فإن بنك إنجلترا، الذى يجتمع الأسبوع الحالى أيضاً، يبدو أكثر حذراً.
لكن بيانات الأسبوع أظهرت تباطؤ نمو الأجور، كما تشير أحدث توقعات مكتب مسئولية الميزانية أيضاً انخفاض التضخم الفصلى إلى هدف 2% فى الربع الثانى من عام 2024 – أى قبل عام تقريباً مما كان متوقعاً فى نوفمبر.
ومع ذلك، يتوقع قليلون أن يبدأ البنك فى التيسير النقدى قبل الصيف.
ولعل الفرص الأكبر لخفض الفائدة فى منطقة اليورو، مع خفض البنك المركزى الأوروبى معدل النمو فى التكتل إلى 0.6% فقط هذا العام.
وتظهر أحدث توقعات التضخم، التى صدرت فى اجتماعه فى 7 مارس، عودة التضخم إلى الهدف بحلول منتصف عام 2025.
لكن رئيسة البنك المركزى الأوروبى كريستين لاجارد، أشارت إلى أن شهر يونيو سيكون على الأرجح أول خفض له.
وسيجتمع البنك المركزى الأوروبى مرة واحدة فقط قبل ذلك الوقت.
سلسلة من المراوغات فى البيانات جعلت استشراف المستقبل من خلال قراءة المؤشرات الحالية صعباً.
وفى الولايات المتحدة، أثار الاقتصاديون المخاوف بشأن كيفية قياس تكاليف الإسكان. وشكلت هذه الزيادة ما يقرب من ثلثى الزيادة السنوية فى التضخم الأساسى الشهر الماضى.
كما أن بيانات التضخم فى نفقات الاستهلاك الشخصى لشهر فبراير ـ وهو المقياس المفضل لدى بنك الاحتياطى الفيدرالى ـ لن تصدر إلا بعد اجتماع بنك الاحتياطى الفيدرالى.
ومن المرجح أيضاً أن ينتظر البنك المركزى الأوروبى بيانات الأجور فى الربع الأول، والتى لن تكون متاحة إلا فى شهر مايو.
فى المملكة المتحدة، تعنى المشاكل المتعلقة بالمسح الرسمى للقوى العاملة أنه يجب التعامل مع بيانات سوق العمل بقدر قليل من الحذر أيضاً.
ويتعين على محافظى البنوك المركزية أن يقدموا للأسواق خطة واضحة المعالم حول كيفية تخفيف السياسة.
وسيرغبون فى تجنب اضطرار الأسواق المالية إلى استيعاب تخفيضات أكبر بمقدار 50 نقطة أساس أو 75 نقطة أساس.
ولكن مدى سلاسة رحلة العودة إلى موقف أكثر حيادية، سيتحدد جزئياً بمدى براعة محافظى البنوك المركزية فى اتخاذ الخطوة الأولى المخيفة.