زار فريق من البنك الدولى سيكوندا، وهى بلدة تقع جنوب أفريقيا تشتهر بمصنع ساسول لتحويل الفحم إلى سوائل، وكان غرض الزيارة المشاركة فى ورشة عمل عن التحول الأخضر العادل فى منطقة مبومالانجا الغنية بالفحم.
وخلال ورشة العمل، قام قادة المجتمعات المحلية والخبراء العالميين بطرح وجهات نظرهم حول التحديات الهائلة للتحول الأخضر، وقد تردد صدى هذا الحوار بعيداً خارج حدود هذه البلدة الصغيرة.
وفى هذه المناقشات، أضحى شيء واحد واضح تماماً هو أن التحول أكثر من مجرد عملية بسيطة لاستخدام مصادر الطاقة الخضراء بدلاً من الفحم. فهذه القصة لها أبعاد إنسانية عميقة، إذ تشمل سبل العيش والمجتمعات وجيل بأكمله فى منعطف تاريخي.
ألسنا عند منعطف خطير مع الذكاء الاصطناعي؟ كما هو الحال بالنسبة لتغير المناخ، يمثل الذكاء الاصطناعى تحولاً رئيساً آخر يجب أن نجتازه بالتعاون وتضافر الجهود. وهذان التحولان معاً سيعيدان تحديد معالم هذا العالم بطرق بدأنا للتو فى فهمها.
وتتيح تجربتنا فى التعامل مع التحول المناخى رؤى ثاقبة بالغة الأهمية للمناقشة الجارية بشأن حوكمة الذكاء الاصطناعي. وتنطبق أيضا على التحول إلى الذكاء الاصطناعى مبادئ العدالة الرئيسية، وهى قواعد التوزيع والإجراءات ذات الصلة والإقرار بالعدالة، وهذه المبادئ توجه العمل المناخي.
والسؤال هو: كيف يمكننا أن نجعل التحول إلى الذكاء الاصطناعى عادلاً وشاملاً للجميع؟.
التصدى لتغير المناخ لا يتعلق بالتكنولوجيا أو التمويل فحسب؛ بل يتعلق فى الأساس بالناس. ففى جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، تشعر المجتمعات المحلية التى تعتمد على الفحم بالقلق على مستقبلها، حيث تواجه تغيرات غير مسبوقة فى سبل كسب عيشها وتماسك نسيجها الاجتماعي. وفيما يلى 3 طرق لشمول الجميع:
أولا: التمكين من أسباب القوة بالتدريب واكتساب المهارات
يمكن أن يؤدى تنفيذ استراتيجية استباقية لتنويع النشاط الاقتصادي، إلى جانب دعم سبل كسب العيش والتدريب على المهارات الجديدة، إلى تحويل التحديات إلى فرص، خاصة إذا كانت المجتمعات المحلية تقود دفة هذا التغيير، وهذا ما نسميه “عدالة التوزيع” أى تحويل الجوانب السلبية للتحولات الكبرى إلى فرص جديدة للشرائح الأكثر خسارةً.
ويمكن أيضا تطبيق مبدأ مماثل على الذكاء الاصطناعي. وتحذر مؤسسة غولدمان ساكس من أن أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل تشات جى بى تي، يمكن أن تحل محل ما يقرب من 20% من الوظائف على مستوى العالم.
وخلال الدورات السابقة من عمليات الأتمتة، فقد أصحاب الياقات الزرقاء وظائفهم. والآن، أصبح أصحاب الياقات البيضاء، وخاصة النساء، عرضة للأخطار، إذ يتفوق الذكاء الاصطناعى فى المهام المعرفية والإدراكية الأساسية للعمل المكتبي.
وباتباع نموذج عدالة التوزيع، يمكن تدريب الموظفين على إدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي، وبالتالى تعزيز إنتاجيتهم.
وقد أظهرت دراسة حديثة مع مجموعة بوسطن الاستشارية أن الاستشاريين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعى أكملوا مهام أكثر بنسبة 12.2%، وبوتيرة أسرع بنسبة 25.1%، مع نتائج أعلى جودة بنسبة 40% مقارنة بأولئك الذين لم يستخدموا الذكاء الاصطناعي.
كما سلطت الدراسة الضوء على الذكاء الاصطناعى بوصفه أداة لرفع مستويات المهارات، حيث شهد الاستشاريون الأقل درجات فى البداية زيادة فى الأداء بنسبة 43% عند استخدامه.
وفى الوقت الحالي، تشير التقديرات إلى أن عاملاً واحداً فقط من بين كل 8 عمال على مستوى العالم لديه المهارات الخضراء الضرورية، ولكن على الرغم من تشغيل أكثر من 67 مليون موظف فى هذا القطاع فى عام 2022، فإن 90% من النساء يفتقرن إلى هذه المهارات. ومن الضرورى تضافر الجهود من جانب الحكومات والصناعات والمؤسسات التعليمية لسد هذه الفجوة.
ومن المهم للغاية تنمية مهارات استخدام الذكاء الاصطناعى لتحقيق عدالة التوزيع، وتقدم برامج مثل مبادرة ميكروسوفت لمهارات الذكاء الاصطناعى تدريباً غاية فى الأهمية على استخدام الذكاء الاصطناعى لمختلف شرائح السكان، ويمكن للتعليم المدعوم بتقنيات الذكاء الاصطناعى إتاحة التعلم الراقى للجميع، والحد من هجرة الكفاءات، وتعزيز فرص السوق لأصحاب المواهب فى البلدان النامية.
ثانيا: ضمان الشمول والإنصات إلى الجميع
هذا ما شهدناه فى سيكوندا، وعلى نطاق أوسع، نعمل على ضمان إيصال أصوات المجتمعات المحلية كى تكون جزءاً من جهود تصميم الحلول المناخية، على سبيل المثال مشروعات البنية التحتية القادرة على الصمود فى وجه تغير المناخ أو استخراج المعادن الخضراء.
وعلاوة على ذلك، يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعى والتعلم الآلى أن تعزز مشاركة المواطنين من خلال تأصيل الأنشطة المناخية فى التجارب المجتمعية، واستخدام هذه التقنيات فى تمويل هذه الأنشطة يؤدى إلى توجيه الأموال نحو المشروعات المؤثرة، وضمان الشفافية والمساءلة “الخضراء “.
وعندما يؤثر الذكاء الاصطناعى على فرص العمل وأنشطة الرعاية الصحية والتعليم، من الضرورى سماع مختلف الأصوات فى عمليات الحوكمة لضمان تحقيق منافع واسعة النطاق.
ويستلزم الشمول فى إطار الذكاء الاصطناعى أيضا تعزيز المشاركة المجتمعية والكفاءة لحماية الثقة وسلامة المعلومات، وهما غاية فى الأهمية فى مجالات مثل العدالة المناخية.
ثالثا: تحقيق الكرامة والإنصاف للمجتمعات المهمشة
من المهم للغاية احترام حقوق وقيم جميع فئات المجتمع فى سياق “التحولات العادلة”، سواء المناخية أو المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. وهذا يسلط الضوء على كرامة كل إنسان ويساعد على التغلب على التحديات الفريدة التى تواجه المجتمعات المهمشة، وهو بالضبط ما نركز عليه فى عملنا بشأن الأبعاد الاجتماعية لتغير المناخ.
كما نسلط الضوء على آثار المناخ الفادحة على النساء والشرائح المهمشة مثل الشعوب الأصلية، مما يزيد من تعميق التفاوتات المجتمعية. وتأكيداً على أهمية مشاركة المجتمعات المحلية، ندعو إلى الاستفادة من المعارف المحلية للمشاركة فى تصميم حلول فعالة ومعدة خصيصاً للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه.
وكشف الباحثون عن حالات خاصة بالذكاء الاصطناعى تعمل على استمرار التحيز الخوارزمى ، مثل أخطاء التعرف على الوجه مع بعض المجموعات العرقية والإثنية وأدوات فحص السيرة الذاتية باستخدام الذكاء الاصطناعى التى تظهر التمييز بين الجنسين بسبب بيانات التدريب التى يسيطر عليها الذكور. ويتطلب حل هذه المشكلات تطبيق مبادئ إقرار العدالة.
نحو مستقبل عادل ومستدام فى عصر الذكاء الاصطناعي
من الضرورى للغاية أن يدعم التقدم التكنولوجى مبادئ العدالة، فضلاً عن إيلاء الأولوية أيضا للاستدامة البيئية، ومعالجة الآثار البيئية لزيادة الحوسبة اللازمة لتوسيع نطاق الذكاء الاصطناعي.
وسنواصل التعلم من الدروس القيمة المستفادة من رحلتنا لإيجاد كوكب أكثر صلاحية للعيش.
والآن، ونحن نتبنى ثورة الذكاء الاصطناعي، دعونا نطبق هذه الدروس المستفادة. ففى هذا العالم الجديد الذى يتسم بالممارسات الخضراء والذكاء الاصطناعي، يمكننا معا تدعيم بيئة نزدهر ونتقدم فيها جميعا دون أن يتخلف أحد عن الركب بالاتحاد تحت مظلة العدالة والإنصاف.