يتعين على البلدان المتقدمة إدراك أنها تتحمل مسؤولية إنشاء نظام تجاري أكثر استقراراً
لا يزال تعافي التجارة العالمية من الاضطرابات الناجمة عن جائحة كوفيد هشًا.
ففي عام 2023، نمت التجارة العالمية بنسبة 0.2% فقط، وهي أبطأ وتيرة منذ 50 عامًا، والتوقعات لهذا العام أكثر إشراقًا، إذ تقدر المؤسسات الدولية الكبرى أن المعدل سيرتفع إلى ما يتراوح بين 2.7% و3.5%.
وهذا سيشكل تحسنًا كبيرًا، لكن من المتوقع أن يواجه تحقيق هذا المستوى من النمو تحديات من التدابير التجارية الحمائية والتوترات الجيوسياسية والديناميكيات السياسية المتغيرة مع انتخاب الناخبين لحكومات جديدة في الاقتصادات الكبرى خلال العام الحالي.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن التعاون في قضايا التجارة الدولية غير كافٍ، فقد كانت المشاكل التي تواجه التجارة العالمية واضحة للعيان في المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي اختتم أعماله في أبوظبي الشهر الماضي.
ولم يخلِ المؤتمر من الإنجازات، لكن وجهات النظر تشير إلى أن الكثير منها كان مؤهلاً في أحسن الأحوال بسبب نواقص مختلفة، حسب ما نقلته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
فأولاً، كانت الحكومات تعمل على تأجيل العديد من القضايا التجارية الرئيسية، فعلى سبيل المثال، رغم أنه من الجيد أن تلتزم منظمة التجارة العالمية بمواصلة مناقشة الإصلاح الشامل لآلية الاستئناف الخاصة بتسوية المنازعات، فإن التوصل إلى اتفاق فعلي سيكون موضع ترحيب أكبر.
وما لم يعمل نظام تسوية المنازعات بكامل طاقته، وخاصة هيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية التي أصيبت بالشلل منذ عام 2019، فلن تتمكن منظمة التجارة العالمية من توفير الأمن الأساسي للشركات من أجل الاستثمار والتصدير، وهذا كله كان ليشكل مزحة سيئة إذا لم تكن أهمية منظمة التجارة العالمية على المحك أيضًا.
ثانياً، يبدو الأمر وكأن ممارسة المفاوضات والاتفاقيات مع مجموعة فرعية من أعضاء منظمة التجارة العالمية بدلاً من الهيئة بأكملها قد انحرف عن مساره.
فعلى سبيل المثال، كان من دواعي سرور ماليزيا أن تنضم إلى 123 عضواً آخر في تبني اتفاقية تيسير الاستثمار من أجل التنمية، والتي ستساعد في توفير بيئة استثمارية مواتية من خلال تعزيز شفافية السياسات وتبسيط الإجراءات الإدارية.
كما تعتبر ماليزيا أيضًا واحدة من 71 دولة وقعت على اتفاقية دعم مصايد الأسماك، والتي ستلزم المشاركين بدعم ممارسات الصيد المستدامة على مستوى العالم.
ومع ذلك، تتكون منظمة التجارة العالمية من 164 عضوًا، تتفشى بينهم مخاطر عدم القيام بأي شيء مرة أخرى على مستوى المجموعة الكاملة.
وحتى مع وجود اتفاقيات تيسير الاستثمار من أجل التنمية ومصائد الأسماك، فإن طريق المضي قدمًا ليس واضحًا بعد.
ونظرًا للاعتراضات الواردة من دولتين ناميتين، لم يكن من الممكن إضافة اتفاقيات تيسير الاستثمار من أجل التنمية رسميًا إلى الإطار القانوني لمنظمة التجارة العالمية في أبوظبي.
وعلى نحو مماثل، لا يمكن لاتفاقية دعم مصايد الأسماك أن تمضي قدماً قبل أن يوقع عليها 39 عضواً آخر رسمياً.
ومن الأفضل في كلتا الحالتين أن يتفق كافة أعضاء منظمة التجارة العالمية على أن هذه التدابير جديرة بالاهتمام.
لكن لماذا تكون جزءًا من كتلة نظامها يشجع على تكوين مجموعات؟
وأخيراً، فإن النهج الحالي في التعامل مع التجارة الدولية لا يفعل شيئاً يذكر لحل الفجوة الناشبة بين الدول المتقدمة والدول النامية، والتي أطلت برأسها في أبوظبي، كما هو الحال في العديد من المنتديات الدولية هذه الأيام.
وهذا ظهر بوضوح في مناقشات المؤتمرات حول الزراعة، وكان من شأن اختتام المحادثات في هذا المجال في أبوظبي أن يضمن منافسة أكثر عدالة ويساهم في تحقيق الأمن الغذائي العالمي.
ولكن ما رأيناه في أبوظبي، كما في أماكن أخرى، هو أن الاقتصادات المتقدمة تماطل بشكل غير عادل وتضغط من أجل التوصل إلى توافق في الآراء فقط عندما يكون ذلك مفيداً لها.
ومن المؤسف أن مبدأ الإجماع الذي تتبناه منظمة التجارة العالمية يسمح لأي دولة بمفردها بعرقلة الحركة، حتى ولو كان هذا الاقتراح المعين من شأنه أن يفيد العالم أجمع بشكل واضح.
وبما أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق، يستطيع الغرب أن يستمر في تقديم الدعم الكبير لمنتجيه الزراعيين في حين يتذمر إذا فعل الجنوب العالمي نفس الشيء.
في الواقع، يعني هذا الشلل أن الاقتصادات المتقدمة في الغرب يمكنها الاستمرار في التمتع بفوائد أحادية الجانب من اتفاقية تم توقيعها قبل أكثر من 25 عامًا، على الرغم من أن العديد من القواعد لم تعد ذات صلة وتحتاج إلى التحديث، ومن المؤسف أن هذه البلدان تفضل الوضع الراهن بغض النظر عن احتياجات النمو في البلدان النامية.
ولكي نكون منصفين، ثمة أيضاً اختلافات بين البلدان النامية بشأن التجارة، بما في ذلك بين الأسواق الناشئة الأكبر حجماً ونظيراتها الأقل ثراءً.
ولا يمكن للمرء أن يفترض ببساطة أن دول الجنوب العالمي ستتفق مع كل سياسات بعضها البعض.
تعتبر منظمة التجارة العالمية، وبالتالي التجارة الأكثر حرية، من ركائز النظام الدولي التي تستحق الإنقاذ، لكن كلاهما يحتاج إلى بعض الحب الصارم.
كما أن القائمة المرجعية للأشياء التي نحتاج إلى إنجازها كبيرة، لكن الشمولية تقع في قلب كل هذه الأمور.
ويتعين على المؤسسات العالمية مثل منظمة التجارة العالمية أن تعمل على إيجاد التوازن بين أولويات البلدان الأعضاء المتقدمة والنامية، ويجب أن تكون التجارة العالمية أكثر إنصافًا واستدامة وشمولاً، ولا ينبغي أن تكون هناك معايير مزدوجة.
وينبغي على منظمة التجارة العالمية أن تعالج التحديات التي تتجاوز حدود التجارة التقليدية، مثل دمج الشركات الصغيرة في السوق العالمية، وزيادة مشاركة المرأة وإنشاء سلاسل التوريد المرنة، كما يجب أن تكون المجموعة قوة لتحقيق الاستقرار في أوقات عدم اليقين.
في الوقت نفسه، يتعين على البلدان المتقدمة أن تدرك أنها تتحمل مسؤولية إنشاء نظام تجاري أكثر استقراراً، لأنها أكثر تقدماً وأفضل حالاً من بقية العالم.
وكما هو الحال مع منظمة التجارة العالمية، فمن الصعب أن نكون متفائلين هذه الأيام بشأن المبادرات المتعددة الأطراف الأخرى بين البلدان المتقدمة والنامية مثل مبادرة الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
تعتبر ماليزيا واحدة من 14 دولة شريكة في محادثات المنتدى، لكن على الرغم من بعض التقدم خلال العام الماضي، فإن روح العصر الحمائي الحالي في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم يمكن أن تحكم على الصفقة بالفشل بغض النظر عمن سيفوز برئاسة البيت الأبيض في نوفمبر.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تدرك الضرورة الاستراتيجية المتمثلة في المشاركة بنشاط في أطر التجارة المتعددة الأطراف، خاصة مع دول آسيا والمحيط الهادئ، وأن هذه ليست مجرد مسألة اقتصادية، خاصة أن الرخاء يولد الاستقرار الإقليمي، والذي بدوره يمكن أن يحقق الأمن والسلام والوئام.
ومن هنا، يجب الاختيار بين التشرذم والركود أم التعاون والتقدم؟… ويجب أن يكون الاختيار واضحًا بالنسبة للجميع.