عندما تنخفض أسعار الفائدة وتستقر، يميل المشاركون في الأسواق المالية إلى تحمل قدر أعظم من الإنفاق بالاستدانة والمجازفة.
وعلى هذا فإن التحدي الذي يواجه الهيئات التنظيمية يتلخص في منع هذه المجازفات من التحول إلى مخاطر جهازية والتسبب في إحداث أزمة اقتصادية أوسع انتشارا.
تعتقد أسواق رأس المال، أن أسعار الفائدة تتحرك بالفعل على مسار هابط، لثلاثة أسباب.
الأول أن التضخم بدأ يتباطأ في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا.. بل وتشير الأدلة حتى إلى انكماش في الصين.
ثانيا، من المتوقع أن يظل النمو الاقتصادي العالمي منخفضا على مدار العقد المقبل، مع انخفاض النمو في الاقتصادات المتقدمة على مدار السنوات الخمس المقبلة إلى أدنى مستوياته في أربعة عقود.
علاوة على ذلك، من المنتظر أن تتراجع مساهمة الصين في الطلب العالمي، بسبب اتجاهات ديموغرافية غير مواتية مثل انكماش عدد السكان في سن العمل.
أخيرا، يتوقع كثيرون أن يعمل الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة الوظائف والركود في أسواق العمل، وهذا من شأنه أن يحد من تضخم الأجور ويعزز توقعات انخفاض أسعار الفائدة في الأمد البعيد.
بطبيعة الحال، ربما تؤدي عوامل أخرى إلى فرض ضغوط تدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع، فقد يتسبب انحسار العولمة وعودة حواجز الحماية التجارية في دفع أسعار عدد كبير من السلع والخدمات إلى الارتفاع.
وقد تميل بنوك مركزية عديدة إلى الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة لردع الحكومات (وخاصة البلدان الأعضاء في مجموعة السبع) عن زيادة اقتراضها وزيادة عجزها المالي.
وأخيرا، رغم انخفاض التضخم إلى مستويات أدنى كثيرا من الذروة التي بلغها أثناء الجائحة، فإنه يظل ثابتا بعناد فوق المستوى المستهدف 2% في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا.
وفقا للظروف والمعطيات الحالية، يتوقع المتنبئون في الأسواق المالية خفض أسعار الفائدة مرتين هذا العام في كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وعندما تبدأ الأسعار أخيرا في الاتجاه نحو الانخفاض، سيعيد المستثمرون تخصيص رأس المال، وسيخلف هذا عواقب كبرى على أسعار الأصول المرتفعة بالفعل.
ومع بلوغ مؤشر داو جونز ومؤشر فوتسي 100 (المملكة المتحدة) مستويات مرتفعة جديدة في الأسابيع الأخيرة، أصبح الخطر الأخلاقي يشكل مصدر قلق في محله، فعندما تنخفض تكاليف الاقتراض وتصبح أكثر قابلية للتنبؤ، تميل الحكومات والشركات والأسر إلى زيادة الاقتراض.
خلال الفترة من 2010 إلى 2022، عندما كانت أسعار الفائدة في الولايات المتحدة عند مستوى الصِفر فعليا، ارتفعت ديون الشركات الأمريكية بنسبة 70%، لتصل إلى 94 تريليون دولار.
وكان الدين العام على مسار أكثر إثارة للقلق.
في الولايات المتحدة، يتوقع مكتب الميزانية غير الحزبي أن ينمو الدين الفيدرالي من 99% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2024 إلى 116%- رقم قياسي جديد- بحلول نهاية 2034.
وهذا يثير مخاوف تتجاوز الاستدامة المالية، لأن إصدارات الديون الحكومية المتنامية قد “تزاحم” اقتراض القطاع الخاص وترفع تكاليف الاقتراض التي يتحملها الآخرون جميعا.
تعمل أسعار الفائدة المنخفضة المستقرة أيضا على زيادة خطر نشوء فقاعات الأصول، من خلال خلق “جدار من المال” في النظام المالي.
ومع زيادة الاقتراض من جانب المستثمرين الأفراد والمؤسسات وسعيهم إلى تحقيق عائدات أعلى، فستزداد خطورة مراهناتهم على أصول المضاربة مثل رأس المال الاستثماري والعملات الرقمية المشفرة.
وعندما تطارد مقادير أكبر من النقد فرصا استثمارية أقل نسبيا، تكون النتيجة تضخم أسعار الأصول.
لهذا السبب تضاعف حجم مؤشر ستاندرد آند بورز 500 أربع مرات بين عامي 2009 و2021، عندما كانت أسعار الفائدة قريبة من الصِفر.
الواقع أن التاريخ عامر بأمثلة وفيرة على مستويات الاستدانة الأعلى التي تُفضي إلى نشوء فقاعات الأصول، ثم إلى أزمات اقتصادية تامة النضج.
كان هذا ما أدى إلى انهيار وول ستريت في 1929 والكساد الأعظم؛ وأزمة اليابان في تسعينيات القرن العشرين؛ وانهيار شركات الإنترنت في 2000؛ والأزمة المالية العالمية في 2008.
في السياق الحالي، هناك منطقتان مثيرتان للقلق التنظيمي تستحقان الذِكر.
فأولا، أصبحت صناديق التحوط المتعددة المديرين اليوم أكبر حجما وأكثر أهمية على المستوى الجهازي، وربما أكثر استدانة من مثيلاتها قبل عشرين عاما.
وإذا فشل صندوق تحوط كبير، فقد يخلف ذلك تأثيرات جانبية أعظم كثيرا من تلك التي كان ليخلفها في الماضي.
ثانيا، يستوجب نمو سوق الائتمان الخاص في السنوات الأخيرة تدقيقا أوثق، خاصة وأنه من المعروف أن الاستدانة كانت تنتقل بعيدا عن النظام المصرفي حيث لا تزال الهيئات التنظيمية تفرض إشرافها المباشر.
لنتأمل على سبيل المثال حقيقة أن نحو 69% من الرهن العقاري و70% من القروض الممولة بالاستدانة في الولايات المتحدة تنشأ خارج النظام المصرفي.
بوسع الهيئات التنظيمية اتخاذ ثلاث خطوات استباقية في التصدي لهذه المخاطر.
أولا، يمكنها الحد من خوض المجازفات من قبل المستثمرين الأفراد، من خلال فرض متطلبات الضمان على الروافع المالية لتثبيط الاقتراض والمضاربة المفرطة.
ثانيا، يمكنها الحد من خوض المجازفات من قبل المؤسسات في النظام المالي المنظم من خلال إلزام المؤسسات المالية العالمية المهمة على المستوى الجهازي بالاحتفاظ بمبالغ أكبر من رأس المال مقابل استثمارات المضاربة.
على الرغم من تشديد متطلبات رأس المال بعد أزمة 2008، فقد نحتاج الآن إلى اتخاذ تدابير أقوى للحد من نشوء الفقاعات.
الفرصة سانحة أيضا لتحديث قواعد المحاسبة بحيث تعكس الحقائق المالية (على سبيل المثال، الاستعاضة عن المحاسبة القائمة على الاحتفاظ بالأصول حتى تاريخ الاستحقاق بالمحاسبة على أساس القيمة السوقية بالنسبة للبنوك).
ثالثا، بوسع الهيئات التنظيمية فرض قواعد أكثر صرامة على قطاعات النظام المالي غير الخاضعة للتنظيم (“الخدمات المصرفية الموازية”).
على سبيل المثال، يمكن تصنيف صناديق التحوط على أنها من “المتاجرين” بالأوراق المالية الحكومية، وهذا من شأنه أن يخضعها لمزيد من قواعد الرقابة والشفافية.
وهذا التغيير من شأنه بدوره أن يعكس القواعد الجديدة التي كشف عنها جاري جينسلر، رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصة الأمريكية، في يناير.
في عموم الأمر، تحتاج الهيئات التنظيمية إلى نماذج تعكس على نحو أفضل وتكرر تأثيرات القطاع المالي بالكامل- كل من الأجزاء الخاضعة للتنظيم وغير الخاضعة للتنظيم- على الاقتصاد الحقيقي.
لقد أظهرت أزمة 2008 ماذا قد يفعل الإفراط في خوض المجازفات في الأسواق المالية بالنمو والرخاء.
يستشعر المجتمع على نطاق واسع خسارة الناتج المحلي الإجمالي، سواء في هيئة معدلات بطالة متزايدة الارتفاع أو عائدات ضريبية متدنية لتمويل المنافع العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم، والإفراط في خوض المجازفات يلحق الضرر أيضا بأجيال المستقبل من خلال تقويض الاستثمار في الإبداع.
وقد يتبين لنا أن الخطر الأخلاقي الذي تفرضه أسعار الفائدة المنخفضة أشد خطورة مما نتصور.
إن مصير الاقتصاد، وليس أسواق رأس المال فحسب، بين أيدي القائمين على التنظيم، وهم يُحسنون صنعا باستباق دورة المضاربة التالية بينما لايزال ذلك بمقدورهم.