تُشعر آسيا بالفعل بالتأثيرات المتزايدة لإبقاء بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة مرتفعة كما هي على مدى 11 شهرًا.
لا يزال النقاش حول تأثير ذلك على الاقتصاد المحلي بعيدًا عن الحسم، لكن أسعار الفائدة الأمريكية التي تتراوح بين 2% و4% لعدة أعوام تجذب الأموال من بقية العالم إلى الولايات المتحدة، إذ تستقطب الآن ثلث التدفقات المالية العالمية، وفقًا لأرقام صندوق النقد الدولي.
آسيا ليست استثناء، فقد ضعف مؤشر بلومبرج للدولار الآسيوي، وهو عبارة عن سلة من العملات الآسيوية ذات السيولة العالية والتدفقات التجارية الكبيرة مع الولايات المتحدة، بنسبة 13% خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث أدت تدفقات رأس المال إلى الخارج إلى إضعاف عملات المنطقة.
ومع ذلك، لا تبدو مخاطر خروج رأس المال عن السيطرة كبيرة، حسب ما أوضحته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
تختلف الأسس الاقتصادية في آسيا بشكل كبير عما كانت عليه في أوقات عمليات البيع الكبيرة السابقة، مثل “نوبة الغضب التدريجي” في 2013، والتي أثرت على الروبية الهندية والروبية الإندونيسية، أو أزمة المالية الآسيوية في 1997.
تعتبر الاقتصادات الآسيوية أكثر مرونة بكثير، واحتياطيات النقد الأجنبي أكبر، وهناك رقابة تنظيمية أقوى على الديون بالعملة الأجنبية، وهذه العوامل ساهمت في انخفاض قيمة معظم العملات الآسيوية بشكل منظم هذه المرة، مع تأثيرات طفيفة حتى الآن على الاقتصاد الأوسع نطاقًا.
إضافة إلى ذلك، أصبحت السياسة النقدية في آسيا الآن أكثر توافقًا مع المخاطر الخارجية والمالية.
ألمانيا: دعم الصين لروسيا يضر بالعلاقات الاقتصادية
وفي حين أن الأسس المحلية كانت المحرك الرئيس لقرارات رفع أسعار الفائدة في 2022 و2023، يعد بنك الاحتياطي الفيدرالي موضع التركيز الآن حيث تفكر البنوك المركزية الآسيوية فيما إذا كان بإمكانها بدء خفض أسعار الفائدة.
وحتى بنك تايلاند كان متردداً في استباق بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة رغم الانكماش الذي شهده معظم العام حتى الآن.
يرجع جزء من هذا التركيز على بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تفضيل السوق المتزايد للدولار الأمريكي، حيث يكتسب موضوع “الارتفاع لفترة أطول” قوة.
رغم التوازنات الخارجية القوية لاقتصادات آسيا، يمكن أن تؤدي مواجهة قوى السوق القوية إلى إحداث تأثير كبير على العملة.
وبينما سيكون من الممكن الانفصال مؤقتًا عن بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن الإشارة إلى التوافق معه على المدى الطويل، على غرار البنك المركزي الأوروبي، يمكن أن تساعد في تقليل تدفقات رأس المال إلى الخارج ومخاطر العملة، ولا شك أن الظروف في آسيا قد تجعل هذا النهج صعبًا.
ورغم أن التضخم دخل مرحلة صعبة في العديد من الاقتصادات الآسيوية، وأن تضخم أسعار المواد الغذائية غير المؤكد يلقي بظلاله على التوقعات قريبة المدى، فمن المرجح أن يكون تحدي التضخم في المنطقة على المدى الطويل أصغر من نظيره في الولايات المتحدة.
ثمة أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الولايات المتحدة دخلت فترة من التضخم الهيكلي الأعلى.
ومع تراجع العولمة وارتفاع الحواجز الجمركية والواردات، والانتقال إلى الاقتصاد الأخضر وشيخوخة السكان، من المرجح أن يبلغ متوسط التضخم في الولايات المتحدة بين 2% إلى 3% خلال الأعوام القادمة، بزيادة عن المتوسط طويل الأجل قبل الجائحة البالغ 1.8%.
بكين تهدد برفع دعاوى قضائية بسبب التضييق الأوروبي على السيارات الصينية
تنطبق العديد من العوامل التي تؤثر على الولايات المتحدة على آسيا أيضًا، خاصة اقتصاداتها المتقدمة، لكن تأثيرها سيكون على الأرجح متأثرًا بالقوة التثبيطية لواردات الصين.
يعني الفائض المتزايد في التصنيع بالصين أن صادراتها من المحتمل أن تظل رخيصة لأعوام عديدة. وربما لن يؤثر هذا كثيرًا على الاقتصادات الغربية بسبب التعريفات الجمركية والقيود الأخرى على الواردات.
لكن آسيا مسألة أخرى، ومن المرجح أن يكون التأثير التثبيطي لواردات الصين كبيرًا، خاصة في قطاع التصنيع، نظرًا لاعتماد المنطقة الكبير على الصين للحصول على المدخلات الوسيطة.
وهذا من شأنه أن يشير إلى أن اقتصادات المنطقة يجب أن تنظر في تخفيضات أعمق في أسعار الفائدة الأمريكية، كما أن هذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لجنوب شرق آسيا والهند.
وفي كلا المجالين، ثمة حجة قوية لدعم السياسات للنمو، نظرًا لأن نمو الناتج المحلي الإجمالي انخفض بشكل كبير إلى ما دون الاتجاهات التي كانت سائدة قبل الجائحة.
يبدو أن التحول الدراماتيكي في الاعتبارات السياسية أمر غير محتمل.
وفي بيئة تتسم بقوة الدولار على نطاق واسع، ستتوخى البنوك المركزية الحذر في زيادة ضغوط انخفاض قيمة العملة التي قد تضخم في النهاية المخاطر المالية الكلية، ويبدو أن أغلبهم من المرجح أن يخفضوا أسعار الفائدة بشكل تراكمي بما لا يزيد على نصف نقطة مئوية حتى مارس المقبل.
وإذا اتسع الفارق في أسعار الفائدة الحقيقية بين آسيا والولايات المتحدة، مع احتساب التضخم، فإن ذلك سيجعل الأصول الآسيوية أكثر جاذبية على الهامش، وهذا سيحد من المخاوف من هروب رؤوس الأموال، بافتراض أن السوق تتطلع إلى ما هو أبعد من الفارق في أسعار الفائدة الرئيسية.
ومن المرجح أيضًا أن تظهر عوامل أخرى في المقدمة مع استمرار التحول إلى أسعار فائدة أعلى لفترة أطول.
وبالنسبة لهؤلاء المستثمرين، ينبغي أن تظل آسيا خيارًا جذابًا، مع وجود عدد من الأسواق الرئيسية التي تتميز بتصنيفات استثمارية، وبيئة تضخم مواتية نسبيًا، ومرونة مثبتة في مواجهة الصدمات الخارجية، وآفاق سياسية مستقرة، وأطر سياسية موثوقة، وآفاق واعدة لسلاسل التوريد.
ورغم أن المؤسسات الاستثمارية الكبرى زادت مؤخرًا مخصصات محافظها الاستثمارية للأسواق الآسيوية، فإن هذا التعرض لا يمثل عادة سوى 7% إلى 8% من الأصول المدارة، لذا هناك مجالاً واسعاً لإرسال أموال أكثر إلى المنطقة، وقد يكون هناك ديناميكية مماثلة في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر أيضًا.
في النهاية، سيساعد تدفق رأس المال طويل الأجل المستمر على تحفيز دورة معززة للنمو والاستثمار والقدرة على الصمود الخارجي في آسيا، وهذا سيكون إيجابيًا ليس فقط لآفاق المنطقة الاقتصادية طويلة الأجل، بل يعزز أيضًا قدرتها على مواجهة الضغوط المالية التي قد تنشأ دوريًا مع تكيف العالم مع البيئة الجديدة لأسعار الفائدة.