أدت العلاقات المتعمقة بين السعودية والصين فى مجال الطاقة إلى إبرام عقود بترول طويلة الأجل مقومة بالرنمينبى
كان قسم كبير من التقارير المنشورة فى بداية يونيو حول “عدم تجديد اتفاقية البترودولار” التى دامت عقودًا بين السعودية والولايات المتحدة عامرًا بالمغالطات وأنصاف الحقائق.
حتى ان بعض المنافذ ذهبت إلى حد الزعم بأن السعودية “ستتوقف عن استخدام الدولار الأمريكى فى مبيعات البترول”.
لكن على الرغم من هذه الأخطاء، وبرغم أن الدولار لا يزال مهيمنًا، فإن الزخم نحو إزاحة الدولار يتزايد، ما يعكس تحولات جيوسياسية واسعة النطاق وأخرى مرتبطة بالاقتصاد الكلى.
نشأ نظام البترودولار، والذى بموجبه يُسعر البترول بالدولار وتستثمر البلدان المُصدرة للبترول العائدات الفائضة فى أصول مقومة بالدولار، فى منتصف السبعينيات، بعد أن أنهى الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب.
وقد ساعد هذا فى تسهيل الانتقال إلى نظام ما بعد بريتون وودز لأسعار الصرف المُعومة.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن هذا النظام عمل على ترسيخ مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية ووفر للأمريكيين عقودًا من الرخاء، فاستفادوا من امتلاكهم السوق المفضل للشركات العالمية فى سياق الطلب العالمى المتزايد على الدولار وتدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة.
تمتد جذور هذا الترتيب إلى صفقة سرية أبرمت عام 1974 بين السعودية والولايات المتحدة، والتى بموجبها كان لزامًا على السعوديين أن يعيدوا تدوير دولاراتهم البترولية فى سندات الخزانة الأمريكية فى مقابل ضمان أمنى أمريكى، فنشأ بالتالى تحالف استراتيجى شكل السياسة العالمية لعقود.
وبحلول العام التالى، وافقت جميع بلدان منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) على تسعير البترول بالدولار والاستثمار فى ديون الحكومة الأمريكية، الأمر الذى سمح للبنوك الأمريكية بتمديد القروض إلى بلدان فى الجنوب العالمى وسط تحرير الأسواق المالية من القيود التنظيمية على نحو متزايد.
مع تحول البترول إلى المورد الحاسم لتمكين النمو الاقتصادى، والتحول إلى التصنيع، والتقدم التكنولوجى، أصبحت البلدان المستوردة للبترول فى احتياج إلى الدولارات لدفع ثمن احتياجاتها من الطاقة.
فى الوقت ذاته، أدت الطفرة السكانية العالمية إلى زيادة الطلب على السلع المصنعة والبترول، فازدادت مكانة الدولار قوة.
وبحلول عام 2000، كان أكثر من 70% من كل احتياطيات النقد الأجنبى فى هيئة دولارات، فهيمن الدولار على التجارة الدولية (حيث شجع إصدار الفواتير بالدولار المصدرين على اقتراض الدولارات للتحوط وشجع المستوردين على اقتراض الدولارات لتكوين رأس المال العامل) حتى مع تآكل حصة أمريكا فى هذه الهيمنة بفعل انطلاقة الاقتصادات الآسيوية التى تحولت إلى الصناعة.
ورغم أن هيمنة الدولار لم تسلم من التحديات – وأبرزها إضفاء الطابع المالى على الاقتصاد الأمريكى والانحدار الحاد فى التصنيع المحلى – فإن الفوائد التى عادت على أمريكا كانت هائلة.
وساعد تدفق رأس المال الأجنبى إلى سندات الخزانة الأمريكية فى إدامة أسعار الفائدة المنخفضة وتعزيز قوة سوق السندات، فتحولت مؤسسات وول ستريت إلى المركز المالى الأبرز فى العالم.
اليوم، أصبح نحو 70% من الديون بالعملات الأجنبية مقومة بالدولار.علاوة على ذلك، كان إصدار العملة الاحتياطية العالمية يعنى أن الولايات المتحدة لم تعد مضطرة إلى القلق بشأن العجز التجارى، الأمر الذى سمح لاقتصادها “بالعطاء دون أخذ، والإقراض دون اقتراض، والشراء دون دفع”، على حد تعبير رجل الاقتصاد الفرنسى جاك روف.
ولكن فى وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، ظهرت تحركات نحو إزاحة الدولار.
فقد زادت البنوك المركزية مشترياتها من الذهب بأكثر من الضعف بين 2021 و2022، وحافظت على مستوى مماثل فى 2023.
على ذات القدر من الأهمية، أصبحت تسوية العملات المحلية للتجارة الثنائية أكثر شيوعًا.
فى 2023، سددت الهند أول دفعة لها على الإطلاق بالروبية مقابل البترول الخام من الإمارات، واستخدمت الصين الرنمينبى لتسوية نحو نصف تجارتها واستثماراتها عبر الحدود، مستفيدة من نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود واتفاقيات مقايضة العملات التى وقعها بنك الشعب الصينى مع أكثر من 40 بنكًا مركزيًا.
من الممكن أن يُعزى التحول بعيدًا عن البترودولار إلى عدة عوامل.
فقبل 2000، كانت الولايات المتحدة أكبر شريك تجارى على مستوى العالم لأكثر من 80% من دول العالم، بينما انخفض هذا الرقم الآن إلى أقل من 30%، وتولت الصين إلى حد كبير الدور الذى كانت أمريكا تضطلع به فى السابق.
كما تغير مشهد الطاقة العالمى بدرجة كبيرة، فقد كانت الولايات المتحدة تعتمد بشدة على السعودية فى الحصول على البترول، لكن طفرة البترول الصخرى فى منتصف العقد الأول من القرن الحادى والعشرين وضعت أمريكا على المسار إلى الاستقلال فى مجال الطاقة.
والآن أصبحت الصين المستورد الرئيسى للبترول السعودى، وإن كانت بلدان عديدة، بما فى ذلك السعودية ذاتها، تحتضن مصادر الطاقة المتجددة لتسريع التحول الأخضر.
يعمل صعود الجنوب العالمى، بفضل زيادة انتشار التكنولوجيا وعولمة سلاسل القيمة، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، على دفع العالم نحو نظام متعدد الأقطاب، فى حين سلط الاستخدام المكثف للعقوبات من جانب أمريكا الضوء على المخاطر السياسية والمالية المترتبة على الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية ووسيلة للتبادل ووحدة حسابية.
ويُنظر إلى إزاحة الدولار على نحو متزايد على أنها أفضل طريقة للتخفيف من هذه المخاطر وتعزيز النمو.
نتيجة هذا، تعمل البلدان على تنويع احتياطياتها من النقد الأجنبى، ففى 2022، انخفضت حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية بمعدل أسرع بعشر مرات مقارنة بما كانت عليه الحال خلال العقدين السابقين، إلى 58% بعد 73% فى 2001.
فى الوقت ذاته، عمل التحول الرقمى على تسهيل استخدام نظام التجارة والمدفوعات عبر الحدود، الأمر الذى سمح بتجاوز القيود المرتبطة بتمويل الدولار وتعزيز المرونة المالية.
على سبيل المثال، طبقت البنوك المركزية فى إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند مؤخرًا نظامًا قائمًا على رمز الاستجابة السريعة يسمح للمقيمين بإجراء مدفوعات رقمية عبر الحدود دون استخدام عملة ناقلة.
إن تسارع إزاحة الدولار أمر لا يمكن إنكاره، فقد وجد صندوق النقد الدولى أن متوسط استخدام الرنمينبى فى المدفوعات عبر الحدود مع الصين فى 125 اقتصادًا، ارتفع من صفر% فى 2014 إلى 20% فى 2021؛ وفى ربع هذه الاقتصادات، ارتفع استخدام الرنمينبى إلى 70%.
وكان التحول بعيدًا عن البترودولار عاملاً مهمًا، فى 2023، استُخدمت عملات غير الدولار فى تسوية خُمس تجارة البترول العالمية.
كما أدت العلاقات المتعمقة بين السعودية والصين فى مجال الطاقة إلى إبرام عقود بترول طويلة الأجل مقومة بالرنمينبى “البترو يوان”.
فى عالم ناشئ متعدد الأقطاب، يعمل التحول الرقمى على تمكين الاقتصادات من تطوير آليات دفع بديلة.
مؤخرًا، أقر بنك الاحتياطى الفيدرالى فى نيويورك بأن مجموعة صغيرة من البلدان لديها “حصة متناقصة من الدولار فى الاحتياطيات الرسمية”، فيما تعمل حفنة من البنوك المركزية على زيادة مشترياتها من الذهب.
مع تآكل الثقة على نحو مستمر بفعل المخاطر الجيوسياسية، ستستمر هذه الأرقام فى الارتفاع.
وسوف يكون الاعتماد على التحول الرقمى لإنشاء إطار تعددى لتسوية المعاملات عبر الحدود بالعملات المحلية أمرًا بالغ الأهمية لتجنب تفتت نظام المدفوعات العالمى فى عالم متعدد الأقطاب، والذى سيكون باهظ التكلفة.