فى قلب القاهرة، وسط شوارع منطقة وسط البلد، يقف مبنى البورصة المصرية التاريخى شاهداً على نحو قرن من التحولات الاقتصادية والتاريخية منذ افتتاحه فى عام 1924، تكونت فيه الثروات وتأسست الشركات التى صاغت شكل الاقتصاد المصرى.
انطلق نشاط بورصة القاهرة فى العام 1903، بعد بورصة الإسكندرية بعقدين تقريبا، وقبل تأسيس مبنى شارع الشريفين التاريخى كان سماسرة القرن الكبار يجتمعون فى مقهى نوبار بوسط القاهرة، ثم انتقلت التداولات إلى مبنى جروبي فى شارع عدلى، قبل أن يجرى إنشاء المبنى التاريخى فى شارع الشريفين.
قام بتصميم مبنى البورصة بالقاهرة المهندس المعمارى الفرنسى “جورج بارك”، والذى يُعد أحد أهم مُصممى المبانى القاهرية العريقة، على رأسها مبنى صيدناوى بميدان الخازندار، وقد قام بتصميم المبنى بصفوف من الأعمدة على الطراز المعمارى الإغريقى.
افتُتح المبنى فى فترة كانت مصر فيها تحت الحماية البريطانية، لكن الاقتصاد المصرى كان يشهد نموًا متسارعًا، كان هذا المبنى جزءًا من محاولة النخبة الاقتصادية فى البلاد لإيجاد موطئ قدم فى الأسواق العالمية. تصميم المبنى كان مستوحى من الطراز الأوروبى الكلاسيكي، ما يعكس رغبة مصر فى مواكبة التطورات العالمية.
شهد المبنى العصر الذهبى للبورصة المصرية خلال النصف الأول من القرن الماضى، عندما كانت مصر واحدة من أكبر الدول المنتجة للقطن فى العالم، وشهدت هذه الفترة تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية، ما جعل البورصة مركزًا رئيسيًا للتجارة فى المنطقة.
كما شهد التحولات الجذرية التى طرأت على الاقتصاد المصرى فى حقبة ستينيات القرن العشرين، مع تبنى التوجه الاشتراكى للاقتصاد ورأسمالية الدولة التى وضعت الشركات الكبيرة فى يد الدولة وهو ما ترك البورصة ومبناها بلا عمل تقريبا لمدة 30 عاما تقريبا.
وانتظر المبنى ثلاثة عقود قبل أن تعود إليه روحه فى بداية التسعينيات مع رغبة الدولة فى التغيير وإطلاق مسار إصلاحى لزيادة دور القطاع الخاص وتوسيع ملكية شركاتها، لتشهد جنباته تنفيذ أجزاء من أشهر برنامج للخصخصة فى مصر فى الفترة من منتصف التسعينيات وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحالى.
عودة البورصة من التجميد فى بداية التسعينيات لم تؤد إلى أن تدب الروح فقط فى المبنى العريق، بل أدت إلى خلق مجموعة من الشركات الأيقونية للاقتصاد المصرى فى الوقت الحالى مثل المجموعة المالية هيرميس أكبر بنك استثمار فى المنطقة، وتحول عدد من الشركات القائمة إلى عمالقة مثل البنك التجارى الدولى، إضافة إلى تجريب ونجاح فكرة الشراكة فى الملكية بين الحكومة والقطاع الخاص على المستوى المحلى.
وشهدت البورصة المصرية تحولاً نوعياً مع بدء تبنى التكنولوجيا الحديثة، وبدوره جلب هذا التحول معه تحديثات كبيرة فى أنظمة التداول، ما جعل العمليات أكثر كفاءة وشفافية.
ويضم المبنى متحفا بداخله يروى قصة تطور السوق المالية فى مصر، والمتحف يضم مجموعة من الوثائق التاريخية، والأدوات القديمة المستخدمة فى التداول، وصور نادرة تعكس رحلة البورصة عبر الزمن.
إضافة إلى المتحف يضم المبنى قاعة التداول وتنفيذ العمليات.
غادرت إدارة البورصة مقر الشريفين التاريخى وانتقلت إلى القرية الذكية فى مطلع القرن العشرين مع التوجه لإنشاء مقرات إدارية عصرية غرب القاهرة، وهى تستعد الآن للرحيل إلى أقصى شرق القاهرة حيث يجرى على قدم وساق إنشاء عاصمة إدارية جديدة تقود الاقتصاد فى العقود التالية، بينما يبقى مبنى وسط القاهرة شاهدا على الأحداث ليروى قصص تحولات مصر واقتصادها عبر العصور.