يعتقد المراقبون أن حجم تحركات الأيام العشرة الماضية كان مبالغًا فيه
عادةً لا يتجول دايفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لمجموعة “جولدمان ساكس”، داخل قاعة التداول بالبنك، لكن الاثنين الماضي كان يومًا غير عاديًا لكثيرين في وول ستريت.
توجه سولومون إلى الطابق الرابع في المقر الرئيسي للبنك في منطقة تريبيكا بنيويورك، إذ كان المتداولون يكافحون للتعامل مع أحد أكثر أيام السوق فوضوية في الأعوام الأخيرة.
لم يكن سولومون الشخصية القيادية الوحيدة المتواجدة في الصفوف الأمامية، بل قضى أشوك فارادان، الرئيس المشارك لقسم الخدمات المصرفية العالمية والأسواق في “جولدمان ساكس”، معظم يومه على اتصال بالفريق الذي يتداول الأوراق المالية المرتبطة بمؤشر “فيكس”، المعروف أيضًا بـ”مقياس الخوف” في وول ستريت.
في الطوابق العليا، كانت مجموعة إدارة الثروات بالبنك تستقبل مكالمات من أكثر من 5000 مستثمر للإجابة على تساؤلاتهم حول احتمالية حدوث ركود اقتصادي، وكيف أدهشت البيانات الاقتصادية الأمريكية الضعيفة الأسواق، والتأثير المحتمل للحرب في إيران على السوق.
وفي وسط المدينة، كان المسؤولون والمتداولون في قاعة بورصة نيويورك يناقشون ما إذا كانت ستعمل أدوات إيقاف التداول التلقائي للمرة الأولى منذ بداية الجائحة، وفق ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
وبحلول نهاية اليوم، تراجعت 90% تقريبًا من الأسهم المدرجة في مؤشر “إم.إس.سي.آي” للأسواق العالمية في عمليات بيع مكثفة عشوائية حول العالم.
فقد فقدت شركة “إنفيديا”، التي قادت بمفردها حوالي ثلث مكاسب سوق الأسهم الأمريكية في النصف الأول من 2024، حوالي 400 مليار دولار من قيمتها السوقية في غضون دقائق قبل أن تستعيد معظم هذه الخسائر في الساعات التالية.
ومع ذلك، بعد بضعة أيام فقط، بدا أن معظم الفوضى قد نُسيت، فبحلول مساء الجمعة،كان مؤشرا “أيه.سي.دبليو.آي” و”إس آند بي” مستقرين تقريبًا خلال الأسبوع.
يذكر أن تقلبات الأسبوع الماضي تعكس المزيد عن نفسية وهيكل الأسواق الحديثة أكثر مما تعكس أي تحول جوهري في التوقعات الاقتصادية أو المالية.
لكن هذه التحركات لم تحدث في فراغ، فبالنسبة لبعض المخضرمين في السوق، كان الأمر غير المعتاد حقًا هو فترة الهدوء المستمر بعد الجائحة.
الانهيار الناجم عن تفكيك تجارة المناقلة بالين يمكن اعتباره آخر أنفاس الجائحة
وعندما تقترن أحداث الأسبوع الأخير مع التصدعات التي بدأت في الظهور خلال الشهر الماضي، تظهر إشارات على تحول طويل الأجل قد يؤدي إلى فترة من التقلبات المتزايدة بعد أعوام من الهدوء غير المعتاد.
يقول جو ديفيس، كبير الاقتصاديين العالميين في “فانجارد”، إن “الأسواق كانت واثقة من أن الهبوط السلس للاقتصاد الأمريكي كان أمرًا مؤكدًا، حتى أن فكرة وجود نتائج أخرى كانت مستبعدة، وكان هناك تركيز كبير .
فكثير من المستثمرين والمشاركين في السوق كانوا يتبنون نفس الرؤية للعالم، وكانت تلك الرؤية مطمئنة بالنسبة لهم.
لكن الآن، كما يقول ديفيس، كان هناك “إعادة تسعير لهذا التفكير”.
يعتقد معظم المراقبين أن حجم التحركات خلال الأيام العشرة الماضية كان مبالغًا فيه مقارنة بالمحفزات الأولية.
كانت الشرارة المباشرة لهذا التراجع عبارة عن تحديثات اقتصادية في أول يومين من أغسطس- مثل مسح لشركات التصنيع تلاه أرقام رسمية عن حالة سوق العمل- مما زاد من مخاوف اتجاه الاقتصاد الأمريكي نحو الركود وأن الاحتياطي الفيدرالي يتحرك ببطء شديد في خفض أسعار الفائدة.
وكانت بيانات الوظائف، على وجه الخصوص، أقل بكثير من التوقعات، حيث أظهرت أن الاقتصاد الأمريكي أضاف 114 ألف وظيفة جديدة فقط في يوليو مقارنة بتوقعات تقدر بحوالي 175 ألف، لكن حتى هذا الرقم لم يكن الأسوأ خلال العام.
خرجت موجة بيع أولية عن نطاق السيطرة عندما سنحت الفرصة للأسواق الآسيوية للاستجابة يوم الاثنين، حيث تضافرت الأخبار السيئة عن الاقتصاد الأمريكي مع المخاوف بشأن تأثير ارتفاع أسعار الفائدة في اليابان وارتفاع الين.
واستغل عدد كبير من المستثمرين أسعار الفائدة المنخفضة في اليابان في الأعوام الأخيرة للاقتراض بثمن بخس بالين والاستثمار في الأصول في الخارج، بما فيها في أسهم التكنولوجيا الأمريكية الكبيرة، والتي تعرف بـ”تجارة المناقلة المقومة بالين”.
وشهد مؤشر أسعار الأسهم في طوكيو أكبر انخفاض له خلال أربعة عقود، وبلغ مؤشر “فيكس” ذروته عند 65، وهو مستوى لم يصل إليه إلا في مناسبات قليلة خلال هذا القرن، بما في ذلك في الأيام الأولى لجائحة كورونا في 2020، وفي ذروة الأزمة المالية العالمية في 2008.
ويشير مؤشر “فيكس” عند 65 إلى أن المستثمرين يتوقعون أن يتحرك مؤشر “إس آند بي 500” بمعدل 4% يوميًا خلال الشهر القادم.
يقول بروس كيرك، استراتيجي الأسهم اليابانية في “جولدمان ساكس”: “في ذروته، كانت شراسة عمليات البيع تشبه كثيرًا الأزمة المالية العالمية في 2008، لكن دون مخاوف المخاطر النظامية، ويبدو أن نطاق وعمق عمليات البيع كانت مدفوعة بشكل أكبر بالتمركز الشديد المصطدم بحدود المخاطر الضيقة للغاية”.
كذلك، يوضح صناع السوق أن نقص المشتقات المالية اللازمة للتحوط ضد تحركات الأسعار في الساعات الأولى من صباح الاثنين أسهم في التحركات الحادة في مؤشر “فيكس”، لكن في معظم المناطق كان المحرك الأكبر هو حشود المستثمرين الذين يتحركون في نفس الاتجاه، وليس مشكلة هيكلية.
يمكن أن يؤدي نمو استراتيجيات استثمار معينة إلى جعل التحولات المفاجئة في الزخم أكثر احتمالاً.
يقول ثلاثة وسطاء إن صناديق التحوط متعددة المديرين الذين يديرون استراتيجيات مختلفة، كانت محركًا رئيسيًا للنمو الأخير في الأسواق اليابانية، حيث صُممت هذه الصناديق لتُغلق أو تُصفى مراكزها بسرعة عندما تتحرك الأسواق ضدها.
وأوضح أحد كبار التنفيذيين في أحد البنوك الكبرى في وول ستريت أنه “يمكن للأموال القابعة خارج النظام المنظم أن تثير اضطرابات الأسواق حقًا”.
كما تعززت الأسهم اليابانية بفضل المتداولين الأفراد المحليين الذين يستخدمون كميات كبيرة من الرافعة المالية؛ وعندما بدأت هذه المراكز تفقد قيمتها، أدت طلبات الهامش اللازمة لمزيد من الضمانات إلى بيع قسري إضافي.
في الولايات المتحدة، تعرضت الصناديق التي تستخدم الخوارزميات لتتبع اتجاهات السوق لضغوط كبيرة بسبب سلسلة من البيانات الاقتصادية المخيبة للآمال.
فقد تراجع مؤشر “سي تي أيه” التابع لمصرف “سوسيتيه جنرال”، والذي يتتبع أداء 20 من أكبر هذه الصناديق، بنسبة 4.5% في الأسبوع الأول من أغسطس الجاري، مما زاد من ضغوط البيع مع سعي الصناديق لتغطية المراكز المكشوفة للبيع.
عندما تنعكس مسارات الصناديق التي تستثمر في الزخم، يمكن توقع “رد فعل حاد”، كما يقول شيب بيركنز، رئيس الاستثمار في الأسهم لدى “بوتنام إنفستمنتس”، وهي شركة إدارة أصول تابعة لشركة “فرانكلين تمبلتون”.
وأضاف أن “هناك مقولة مفادها أن الاستقرار يولد الهشاشة.. فالاستقرار أدى إلى الرضا عن النفس والسوق كان يختبر الناس ليقول لهم: هل تعرفون ما تمتلكون؟”.
لقد أبرز التعافي الذي شهدته الأسواق الخميس الماضي انعدام الوضوح بشأن أسس ما كان يحدث من قبل.
فبعد أقل من أسبوع من بيانات الوظائف المخيبة للآمال، دفعت تحديث آخر، والذي عادة ما يكون أقل أهمية، عن سوق العمل الأمريكي مؤشر “إس آند بي 500” إلى أفضل يوم له منذ نوفمبر 2022.
كانت هناك بعض العلامات على تحول أكثر أهمية في الخلفية، حيث تتزايد الضغوط على عدة جبهات تشمل الاقتصاد الأمريكي وأرباح الشركات وأسعار الفائدة العالمية والسياسة.
يتجه النمو في الولايات المتحدة بوضوح نحو الانخفاض، وكان موسم الأرباح في الربع الثاني يهيمن عليه التحذيرات بشأن تقليص المستهلكين للإنفاق.
كما أعرب المستثمرون عن مخاوفهم بشأن التقييمات المرتفعة لسوق الأسهم لعدة أشهر، خاصة في قطاع التكنولوجيا، فقد ساعدت المكاسب الكبيرة التي حققتها أكبر شركات التكنولوجيا، بدفع من الحماس حول الذكاء الاصطناعي، في دعم سوق الأسهم الأمريكية الأوسع، لكن معظم هذه الشركات لم تظهر حتى الآن عائدًا كبيرًا على مئات المليارات التي استثمرتها.
تعليقًا على الأمر، قال بيركنز، من “بوتنام إنفستمنتس”: “لقد انتهى ازدهار الذكاء الاصطناعي قليلاً.. حتى إن شركة إنفيديا، التي تعد رمز الذكاء الاصطناعي، أعلنت عن تأخير في إطلاق شريحة جديدة. ونظراً للقدر الهائل من الإثارة التي كانت تدعم إنفيديا، فإن مثل هذا التأخير يؤثر بشكل كبير”.
في الوقت نفسه، لقد فوجئ المستثمرون برفع أسعار الفائدة من قبل بنك اليابان في 31 يوليو، لكن هذا يرتبط أيضًا باتجاه أطول أمدًا، حيث أنهى بنك اليابان أخيرًا سياسة أسعار الفائدة السلبية قبل بضعة أشهر.
كذلك، أصبحت السياسة العالمية أكثر غموضًا مع تصاعد التوترات مرة أخرى في الشرق الأوسط، ودخول كامالا هاريس كمرشحة ديمقراطية مما جعل السباق الرئاسي الأمريكي أكثر صعوبة في التنبؤ.
ربما كان كل تغيير قابلاً للإدارة بمفرده، لكن التأثير التراكمي بدأ في إحداث تأثير.
فقد كانت الأسهم هادئة بشكل غير عادي منذ عمليات البيع القصيرة في أكتوبر الماضي، لكن تقلبات الأسبوع الأخير سيمثل الأسبوع الرابع على التوالي من الانخفاضات لمؤشر “إس آند بي 500″، كما أن مؤشر “فيكس” كان يتجه ببطء إلى الارتفاع حتى قبل ارتفاعه الكبير الذي سجله في الأسبوع الأخير.
يضيف جيم تيرني، مدير المحفظة في “أليانز بيرنشتاين”: “كانت هناك كمية لا بأس بها من المعلومات الجديدة، عندما تبدأ في تراكم أربع أو خمس أمور مقلقة، ليس من غير المعقول أن يفعل السوق ما فعله منذ منتصف يوليو”.
ويمكن اعتبار الانهيار الناجم عن تفكيك تجارة المناقلة بالين على وجه الخصوص أحد آخر أنفاس عصر الجائحة الذي تميز بعوائد سهلة بفضل الأموال الرخيصة.
كان يُنظر إلى بداية رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي في 2022 باعتبارها نهاية حقبة كانت فيها أسعار الفائدة المنخفضة تقلل من التقلبات وتشجع على الاستثمارات في الأصول الخطرة، لكن في سوق معولم، لا يحتاج المستثمرون إلى التقييد بأسعار الفائدة في بلدانهم الأصلية.
مع تراجع آخر بنك مركزي متردد تدريجيًا عن سياسة الفائدة المنخفضة، تمت إزالة عامل تخفيف آخر للتقلبات على المدى الطويل.
لا يزال المستثمرون يحاولون فك تشابك التأثير النهائي لكل هذه العوامل المختلفة، لكن قلة هم من يتوقعون العودة إلى المكاسب الثابتة التي شهدتها الأسواق على مدى الأشهر الـ18 الماضية.