تتجه الشركات الكبرى، وبشكل متزايد، نحو الاستثمار والاستحواذ على الشركات الناشئة، ولذلك سنشهد خلال الفترة القادمة تغييرا كاملا في كل القطاع.
هذا التغيير الذي بدأ في التسارع منذ استحواذ “إي آند” على حصة الأغلبية في “تطبيق كريم”، قبل عام و8 أشهر تقريبًا، لتضخ مجموعة “‘إي آند” استثمارات بقيمة 400 مليون دولار من أجل أن تكون المساهم الأكبر في التطبيق، الذي تشمل خدماته توصيل الطعام والبقالة والـ micro-mobility والدفع الإلكتروني وتنظيف المنازل وتأجير السيارات وغيرها من خدمات التطبيقات الفائقة “سوبر آب”.
لماذا تصوب “إي آند” (اتصالات سابقا) نظرها تجاه تطبيقات مثل كريم أو بريدفاست؟! ولماذا تحرص “إم إن تي حالاً” على الاستحواذ الكامل على شركة “تيم فاينانس” التركية المتخصصة في مجال القروض المتوسطة والصغيرة، وأن تدير مشاورات على مدار عامين تقريبا لتحقيق هدفها؟!
ولماذا ترصد “مرني القابضة” السعودية Morni Holding نحو 10 ملايين دولار للاستثمار والاستحواذ على شركات مصرية من الآن وحتى عام 2030؟ والتي بدأتها بالفعل بالاستحواذ الجزئي والاستثمار في شركة Helpoo المصرية الناشئة.
وما سر احتدام المنافسة بين الشركات العالمية في الاستثمار بمجال الذكاء الاصطناعي والشركات الناشئة أيضا، لتشهد شركات هذه القطاعات تدفقات استثمارية ضخمة خلال الفترة الأخيرة؟، الإجابة في المجمل تتلخص في تحقيق النمو.
“ستارت آب بلينك”: مناخ أعمال الشركات الناشئة المصرى جاذب للاستثمارات
لقد أدركت الشركات الكبرى، ذات نموذج الأعمال الثابت والتقليدي والمستقر، ضرورة التحرك سريعا لخلق منصات وخدمات تستهدف العملاء الأفراد B2C أو العملاء من الشركات B2B تعزز منتجها التقليدي بالاعتماد على الأفكار “الطازجة” وإبداع عقول الشركات الناشئة، مثلما بحثت شركات الاتصالات خارج نموذجها التقليدي، فأبدعت في تقديم خدمات الدفع الإلكتروني والتكنولوجيا المالية، أو اتجهت إلى امتلاك التطبيقات الفائقة متعددة الخدمات، وحتى بعض الشركات المصرية أصبحت تتطلع للاستحواذ على شركات في الخارج، بعدما شعرت بعدم قدرتها على تحقيق نمو كبير في قطاعها بالأسلوب التقليدي.
وبالنظر إلى جانب الشركات الناشئة، فإن البحث عن السيولة لدى هؤلاء الممولين الكبار، يخلق فرصة للاتفاق: المواهب والابتكار في مقابل السيولة وتحقيق الاستقرار.
ولا تجذب الشركات الناشئة الموهوبة أنظار الشركات الكبرى فقط، فقد شهدنا استحواذات متبادلة بين شركات ناشئة وبعضها البعض، مثل صفقة استحواذ تطبيق Check Me على منصة “دكتور أونلاين” لخدمات الرعاية الصحية، وعبر آلية تبادل أسهم، أصبحت لدكتور أونلاين نسبة أقلية في Check Me وأصبحت الأخيرة المساهم الرئيسى فى دكتور أونلاين.
مثل هذه الاستحواذات تسهم في تعزيز عمليات النمو، وتتكامل معه خدمات الشركة المستحوذة لجذب المزيد من العملاء، مثلما أضافت “دكتور أونلاين” خدمة الحجوزات الطبية عبر مكالمات الفيديو إلى Check Me، ويقوي مركزها إذا ما أرادت التوسع في أسواق جديدة.
كما أصبح واضحًا أن عمليات الاستحواذ هي أرخص وأسرع الطرق لتوسيع نطاق عمل الشركات، سواء في بلدها الأم أو التوسع في أسواق جديدة، وبالنظر إلى قطاع التكنولوجيا المالية، والذي ظل القطاع المهيمن لاستثمارات رأس المال المخاطر طوال السنوات الثلاث الماضية، فقد شهد القطاع العديد من عمليات الاستحواذ البارزة في السنوات الأخيرة، من أشهرها استحواذ PayPal على الشركة المالكة لتطبيق Honey، في واحدة من أشهر عمليات الاستحواذ وأكبرها في عام 2019، واستحواذ Square على Afterpay الأسترالية في عام 2021 مقابل 29 مليار دولار، من أجل تعزيز خدمات الدفع بالتقسيط وتوسيع نطاق عمل Square في الأسواق العالمية، وكذلك استحواذ ماستركارد على Finicity في عام 2020 مقابل 825 مليون دولار، وقد عززت الصفقة قدرات ماستركارد في مجال البيانات المالية وتقديم حلول مبتكرة للعملاء.
وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شهدنا استحواذ منصة العقارات Huspy على شركة Finance Lab، وهي شركة استشارات للقروض، وشركة Just Mortgages، وهي شركة استشارات مالية مستقلة، بينما استحوذ تطبيق كريم الفائق على Denarii Cash لربط العملاء والسائقين بخدمات تحويل الأموال باستخدام تكنولوجيا التحويل المالي المتاحة عبر المنصة، وبذلك أصبحت كريم هي “مستحوذ” أمس الذي أصبح “مستحوذا عليه” اليوم!
إن الهزة الحالية التي تتعرض لها أسواق الأسهم العالمية، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، وصولاً إلى أسواق الشرق الأوسط، سيضع السيولة في مكان أقوى، وسيتيح لحائزي “الكاش” فرصة اقتناص شركات موهوبة ومبتكرة في حاجة إلى سيولة، ولا يفوتنا متابعة المستثمر المخضرم وارن بافيت، الذي أقدم على بيع جزء كبير من حصة شركته “بيركشاير هاثاواي” في شركة أبل، ليصل حجم مبيعات أسهمه إلى 76 مليار دولار تقريبا، لتصل الاحتياطات النقدية لشركة بيركشاير إلى مستوى قياسي بلغ 277 مليار دولار، وسرعان ما سنرى الثعلب العجوز يتوجه بثقله إلى قطاعات واعدة تعاني من أزمة سيولة.
الشركات الناشئة المصرية تجمع 101 مليون دولار خلال النصف الأول
عندما ننظر إلى المستقبل القريب، وفي غضون عامين تقريبا، نميل إلى رؤية المزيد من اشتعال المنافسة بين الشركات الأفريقية والخليجية، وأن تتسارع وتيرة استحواذ “الكاش” على المزيد من العقول النابهة والمبتكرة للاستفادة من قوتهم، وأن تستفيد الشركات العالمية، مثل مايكروسوفت وإنفيديا، من الكثير من المواهب في المنطقة، والتي ستكون أقل كلفة كثيرا من بين جنسيات أخرى، وقد ينتهي الأمر بنمو 10 أو 15 شركة كبيرة تبتلع بقية الشركات، أو أن تضمها تحت لوائها.
إن العديد من الشركات العالمية تمتلك بالفعل مكاتب في بلدان ذات تكاليف تشغيل أقل لتعزيز كفاءتها وتقليل النفقات، فلدى مايكروسوفت مكاتب في بلدان مثل الهند والفلبين، حيث تستفيد من تكاليف العمالة المنخفضة والبنية التحتية المتطورة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وتمتلك جوجل مكاتب في بلدان مثل بولندا والهند، حيث تستفيد من المواهب المحلية وتكاليف التشغيل المنخفضة لتطوير البرمجيات والخدمات التقنية، ولدى “آي بي إم” (IBM) مكاتب في بلدان مثل الهند والبرازيل، حيث تستفيد من تكاليف العمالة المنخفضة وتوافر المهارات التقنية العالية، بالإضافة إلى أشهر الشركات في جميع القطاعات، بما فيها ديلويت (Deloitte) لخدمات المحاسبة والاستشارات، وأكسنتشر (Accenture) لخدمات تكنولوجيا المعلومات والاستشارات، وغيرها.
إننا نشهد عملية تغيير جذرية تشبه “الخلاط” أو قل الإعصار، الذي يبتلع داخله كثير من الشركات قبل أن يلفظ إلينا خريطة جديدة من الشركات الأكثر تماسكا وتكاملا وتحقيقا للنمو، هذا الإعصار الذي تثيره “السيولة” و”الموهبة” وقوة العلامة التجارية “البراند”، ولن تكتب النجاة منه إلا لشركات تمتلك قرارات منضبطة تعرف احتياجاتها وتوازن بين خططها.
أنا أدرك جيداً أن القادم صعب للغاية، ومع ذلك فالمكاسب ستفوق التوقعات و”تسييل” الأسهم في الشركات الناشئة والمتوسطة هو كلمة السر، الأسهم الأكثر سيولة ستصبح أكثر جاذبية والمستثمرين بعد الأزمات أصبحوا يميلون للشركات ” الممولة جيدا” سواء التى لديها شريك كبير معروف لو حصل أزمة يسندها أو مجموعة صناديق مستثمرة فيها لن تتركها إن اهتز السوق… ربنا يقوينا على الخلاط الجاي في هذا القطاع.