على الرغم من شهرة فرنسا فى إنتاج طبق كبد الإوز المسمّن أو”foie gras الفو جرة” بالفرنسية، إلا أن المراجع التاريخية تشير إلى أن المصريين القدماء هم أول من قاموا بالتغذية القصرية للطيور منذ 2500 عامًا قبل الميلاد.
وتعتمد تلك العملية على القيام بالتغذية القصرية للبط والإوز مما يوسع الكبد إلى 10 أضعاف حجمه المعتاد، باستخدام قمع مزود بأنبوب طويل (20-30 سم)، مما يدفع التغذية إلى مرئ الطائر، الأمر الذى يتسبب وفقاً لبعض الدراسات العلمية فى التهاب المرئ لاحقاً وحدوث إصابات ووفيات بين الطيور نتيجة التغذية الإجبارية بأكثر مما يحتاج أو يتحمل.
وعلى الرغم من الاعتراضات التى تشهدها تلك الوجبة من جمعيات الرفق بالحيوان، بالإضافة إلى المعارضات الأخلاقية لعملية التسمين القصرى، والآراء الطبية التى ترى وجود أضرار للطائر وللإنسان الذى سيتناول تلك الوجبة، إلا أن القانون الفرنسى ينص على أن هذه الوجبة هى من التراث الثقافى الفرنسى.
اقتصادياً، تم تشبيه تلك العملية بعملية “التمويل القسرى للشركات الناشئة”، حيث تذهب بعض صناديق رأس المال المُخاطر، والمؤسسات المالية إلى تقديم تمويل مُفرط للشركات الناشئة “بهدف تسريع نموها” فيما يطلق عليه “تأثير كبد الإوز المسمّن”، حيث يتم تمويل تلك الشركات الناشئة بأكثر من قدرتها على التشغيل والإدارة ما ينتهى به الأمر بإفلاس تلك الشركات أو دمجها مع عدد من الشركات الأخرى.
في عام 2023، بلغ حجم تمويلات رأس المال المخاطر عالميًا نحو 285 مليار دولار، وشهد هذا العام انخفاضًا كبيرًا بنسبة 38% مقارنة بعام 2022، حيث كان إجمالى التمويلات آنذاك 462 مليار دولار.
هذا التراجع فى التمويل كان ملحوظًا فى جميع مراحل التمويل؛ فالتمويل الأولى انخفض بأكثر من 40%، والتمويل فى المراحل المتأخرة انخفض بنسبة 37%، وتمويل البذور انخفض بنسبة تجاوزت 30%.
محمد نجاتى يكتب: عصر السيولة والابتكار.. مستقبل الكيانات الكبرى فى استحواذات الشركات الناشئة!
وهذا الانخفاض لا يعبر عن تصحيح لرؤية الاستثمار فى تمويل تلك المشروعات الناشئة نتيجة خسائرها، وإنما هو أكثر تماشياً مع الركود التضخمى الذى شهده العالم فى 2023 وارتفاع أسعار الفوائد بما قلص من السيولة المتاحة لمنح تمويلات.
فعلى سبيل المثال، فى الولايات المتحدة، كانت هناك نحو 3200 شركة ناشئة مدعومة برأس المال المخاطر قد أغلقت أبوابها فى عام 2023، حيث كانت هذه الشركات قد جمعت تمويلات بلغت 27.2 مليار دولار بين عامى 2021 و2022 أى خلال عام كمتوسط بين الحصول على التمويل والإغلاق، وعلى الرغم من أن تلك السنوات لم تكن أفضل أعوام للاستثمار على مستوى العالم بسبب الجائحة واضطراب سلاسل الإمداد وغيرها من الأسباب – والتى مازالت مستمرة نسبياً حتى الان-، ونظراً لحداثة تلك الشركات فلم تستطع مقاومة الصدمات والدورات الاقتصادية، إلا أنه هناك أسباب أخرى يجب النظر إليها بجدية.
فقبل تلك الأعوام كانت هناك شركة “صن إديسون sunEdison” الأمريكية للطاقة النظيفة، والتى حققت أعلى نجاحات لها فى 2015 وتقدمت بطلب لإعلان إفلاسها فى 2016 على الرغم من دعم الإدارة الأمريكية الديمقراطية لهذا النشاط منذ تأسيس أوباما “مكتب القروض بوزارة الطاقة” عام 2009 لدعم الطاقة النظيفة، كما أن هناك شركة إيرليفت الباكستانية للتجارة الإلكترونية والتى تعمل فى توصيل البقالة والأدوية، والتى حصلت في نهاية 2021 على 85 مليون دولار فى أكبر جولة تمويل شهدتها باكستان، وشهدت توسعات داخل باكستان وخارجها فى كيب تاون وجوهانسبرج وبريتوريا، وفى 12 يوليو 2022، بعد عام واحد تقريباً، أعلنت إغلاق أبوابها وتسريح العاملين بها والبالغ عددهم 1300 موظف (أسرة).
مالك سلطان يكتب: كتابة الكود فى مصر.. مستقبل الشركات الناشئة
هذه التمويلات السخية التى تتمتع بها الشركات الناشئة، والتى تشبه عملية التسمين، وسرعان ما تغلق أو تُفلس فى فترة قصيرة، فى ظل حرية تتمتع بها فى الدخول والخروج من الأسواق، تؤدى إلى خسائر اجتماعية تتعلق بفقدان العاملين بها إلى وظائفهم، وارتفاع تكلفة التقاضى والمنازعات وزعزعة السلم المجتمعى، بالإضافة إلى خسائر اقتصادية لعمليات التشغيل والعقود المرتبطة بها، فضلاً عن حرمان مشروعات قائمة بالفعل أو ناشئة ولديها فرص أفضل فى الإستدامة من الحصول على تلك التمويلات التى تم تجميدها بفضل خسارة المشروع الناشئ وإغلاقه.
كل ذلك يأتى فى ظل حجم دين عالمى يتزايد ويتزامن مع ركود اقتصادى ممتد منذ ثلاثة سنوات تقريباً، وسيستمر فى ظل حالة عدم الاستقرار التى يشهدها الاقتصاد العالمى والصراعات الإقليمية والدولية.
لا يمكن إنكار أهمية ودور رأس المال المُخاطر فى التنمية الأقتصادية، والتشجيع على الابتكار وهو أحد أهداف وأدوات تحقيق التنمية المستدامة، إلا أننا نرى ضرورة التوقف لحظة للوقوف لتحديد مفهوم الإبتكار، واحتياجات الاقتصاد والأفراد حول العالم لفكرة هذا المشروع، ومدى مساهمته فى توفير الغذاء أو انتقال السلع والخدمات، أو توفير الطاقة، وتسهيل حياة الأفراد والأسر بشكل عام، وما هى القيمة المضافة التى يقدمها؟.
ويجب الانتقال بعد ذلك لبحث أسباب غلق وفشل تلك الشركات وأسباب فقداننا لتلك المشروعات، والتى عادة ما تكون نتيجة التخلف عن إشراك أصحاب المصلحة المناسبين، والتسرع فى تنفيذ الفرص والتوسعات، أو نتيجة عدم تدرج صاحب المشروع فى هيكل وظيفى أو إدارى أو تمتعه بخبرة إدارية كافية وكفيلة بإدارته لمشروعه بصورة جيدة، بالإضافة إلى أن تصميم المشروع وخطة العمل عادة ما يتم تصميمهما لجذب التمويلات، وليس لجذب العملاء واحتياجات الأسواق، من خلال عمليات تشغيل واستراتيجيات واضحة وممكنة، وهو ما يخلق عدم التوازن بين الربحية والنمو فيحدث الانهيار المفاجئ للإدارة وغلق أبواب الشركة.