ثمة حالة من انعدام اليقين تلوح في أفق الاقتصاد العالمي بسبب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المنتظرة في نوفمبر.
فرغم أن الولايات المتحدة تضم 5% فقط من سكان العالم، وتسهم بنسبة 15% فقط من القيمة المضافة العالمية، إلا أن دورها في تشكيل الاقتصاد العالمي لا مثيل له.
وبالنظر إلى هذا، فإن سياسات التجارة للإدارة الأمريكية القادمة، سواء كانت بقيادة نائبة الرئيس كامالا هاريس أو الرئيس السابق دونالد ترامب، ستخلف بلا شك آثارًا جانبية كبيرة.
العالم يدرك ما سيفعله ترامب على الأرجح، فهو سيرفع التعريفات الجمركية الأمريكية على الواردات من الصين إلى 60%، ويفرض رسومًا بنسبة 10% على الواردات من جميع الدول الأخرى، وفق ما أورده موقع “بروجكت سنديكيت” الإخباري.
وهذه السياسات ستلحق الضرر بصادرات الصين المتجهة إلى الولايات المتحدة بشكل رئيسي، لكن صادرات العديد من الدول الأخرى إلى الولايات المتحدة ستنخفض أيضًا، رغم أن البعض، الذين يقدمون بدائل للسلع الصينية، قد يستفيدون.
كما ستعاني الاقتصادات التي تعتمد على سلاسل التوريد التي تشمل الصين، فالشركات الكورية الجنوبية واليابانية، على سبيل المثال، تصدر أجزاء ومكونات إلى الصين، والتي تُدمج عادةً مع أجزاء ومكونات مصنوعة في الصين، وربما تُجمع في منتجات نهائية، للتصدير إلى الولايات المتحدة وأماكن أخرى.
وهذا يعني أن أي انخفاض في الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة سيُترجم إلى انخفاض في الصادرات من اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما.
وربما تحاول هذه الدول التحايل على المشكلة من خلال نقل سلاسل التوريد إلى الهند وفيتنام وأماكن أخرى، لكن من المرجح أن تكون هذه الحلول مكلفة وغير مكتملة.
لن تقتصر آثار “صدمة التجارة التي أحدثها ترامب” عند هذا الحد، فإذا أعاقت التعريفات الجمركية النمو في الصين، فقد ينخفض الطلب الصيني على الواردات، مما يوجه ضربة أخرى للاقتصادات التي تعد الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا لها، مثل اليابان وكوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا، كما أن التعريفات الجمركية المقترحة من ترامب سيكون لها تأثيران آخران أقل وضوحًا، وكلاهما غير مرغوب فيه بالنسبة للولايات المتحدة.
التأثير الأول يتلخص في أن هذه التعريفات ستشكل عبئًا على الصادرات الأمريكية إلى العديد من الدول، لأن العجز التجاري الأمريكي الكلي تحدده عوامل أخرى غير سياسة التجارة الأمريكية، مثل نقص الادخار الوطني الأمريكي بالنسبة للاستثمار.
وبالنظر إلى أن التعريفات الجمركية المقترحة من ترامب لن ترفع من نسبة الادخار الأمريكي بشكل كبير، فإن أي انخفاض في الواردات الأمريكية سيقابله انخفاض في الصادرات الأمريكية، وبالتالي ستتراجع أهمية الولايات المتحدة كشريك تجاري بالنسبة للعديد من الدول.
التأثير الثاني هو أن التعريفات الجمركية لترامب ستقوض النظام الاقتصادي العالمي الذي قادت الولايات المتحدة عملية إنشائه.
ومن شأن تدابير ترامب انتهاك الالتزامات القانونية للولايات المتحدة بموجب منظمة التجارة العالمية.
ومع أن الولايات المتحدة قضت أعوام في إضعاف آلية تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية، فإنه من غير المرجح أن تتمكن المنظمة من التصدي لحماية ترامب.
وهذا سيعزز الشعور بأن الولايات المتحدة لا تلتزم بالقواعد، وسيدفع دولاً أخرى، خصوصًا تلك التي تواجه مستويات عالية من التفاوت، إلى تنفيذ رسوم جمركية انتقامية أو سياسات حمائية أخرى.
من جهة أخرى، لاتزال ملامح سياسة التجارة المحتملة لهاريس غير واضحة، إذ يمكن للمرء أن يتخيلها تستمر في نهج الرئيس جو بايدن في التجارة، والذي يعتبر أقل تقلبًا من سياسات ترامب، لكنه لايزال يشكل نقطة سوداء في إرث بايدن الاقتصادي.
وفي الواقع، فإن استمرار سياسات بايدن سيساهم في تراجع الولايات المتحدة النسبي كدولة تجارية، وإن كان ذلك بشكل أبطأ مما ستفعله تعريفات ترامب الجمركية.
مع ذلك، هناك احتمال آخر، وهو أن لهاريس يمكنها السعي لإعادة إحياء القيادة الأمريكية في التجارة العالمية، خاصة من خلال إعادة الانضمام إلى “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”، التي تضم أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام.
تطورت الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ من “الشراكة عبر المحيط الهادئ” التي كان أوباما قد قاد جهودها، لكن لم يتم التصديق عليها بسبب قرار ترامب في 2017 بالانسحاب منها، وبفضل القيادة اليابانية جرى التصديق عليها في العام التالي.
إضافة إلى توسيع الوصول إلى الأسواق بين الدول الأعضاء، تفرض الاتفاقية متطلبات مؤسسية تؤثر على سلوك الشركات المملوكة للدولة والمشتريات الحكومية وقواعد الدعم.
ونظرًا لهذه القدرة على تحفيز الإصلاح المؤسسي داخل الدول الأعضاء، يمكن اعتبار الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ نوعًا من “منظمة التجارة العالمية بلس”.
وربما تحفز الاتفاقية أيضًا الإصلاح بين الدول المرشحة للانضمام، فرغم أن الصين لا تلبي حاليًا متطلبات الاتفاقية، فقد قدمت طلبًا للانضمام، مما يشير إلى استعدادها لإصلاح الشركات المملوكة للدولة وتوسيع الوصول إلى السوق، لكن شراكة تشمل الصين دون الولايات المتحدة ليست في مصلحة أمريكا.
كما أن إدارة هاريس قد تسعى أيضًا إلى إلغاء التعريفات الجمركية التي فرضتها الإدارات السابقة على الواردات الصينية، والتي تعد بمثابة ضريبة على المستهلكين الأمريكيين، خاصة الأسر ذات الدخل المتوسط والمنخفض.
ويجب على هاريس أن تكون قادرة على توضيح للجمهور الأمريكي أن التعريفات الجمركية تأتي بنتائج عكسية، لأنها تزيد من تكاليف المعيشة دون خلق وظائف جديدة للعمال الأمريكيين.