كثيراً ما تتحدث الحكومة عن ارتفاع نسبة النمو الاقتصادى، وتحسن مؤشرات الاقتصاد، وفى المقابل يتساءل المواطن عن أثر ذلك على حياته اليومية، وكيف يمكن أن يكون هناك نمو ولا يشعر به؟.
والفارق بين حديث الحكومة وتعجب المواطن، هو الفارق بين النمو والتنمية الاقتصادية، فالنمو يُحدث زيادة فى مستوى الإنتاج أو زيادة الناتج المحلى الإجمالى، ودون النظر إلى كيفية توزيع تلك الزيادة أو توزيع الدخل الحقيقى بين الأفراد، فى حين أن التنمية الاقتصادية تُركز على تعديل هيكل الاقتصاد بما ينعكس على التغير فى عملية توزيع الدخول.
وبمعنى أبسط، النمو هو الانتقال إلى عمارة سكنية بدلاً من الشقة، والتنمية هى كيفية توزيع الشقق والغرف داخل العمارة على السكان.
وذلك يعنى أن تحقيق النمو لا يُمثل تنمية، بينما تحقيق التنمية يتطلب تحقيق نمو، وهى إشكالية فى غاية الأهمية، حيث أن عملية التنمية تتطلب تدفقات نقدية مستدامة، وللوصول إلى تلك الاستدامة أو الحفاظ عليها وزيادتها، يجدر بنا توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية نحو مفهوم آخر وهو التنمية البشرية.
وتهتم التنمية البشرية “بتكوين وتعزيز قدرات الأفراد”، من خلال تخفيض نسب الفقر ومعدلات نمو السكان، وتوفير الخدمات التعليمية والصحية بجودة عالية وسعر مناسب، والحفاظ على البيئة ومراعاه تأثير الأنشطة الاقتصادية عليها، وضمان حرية الرأى والتعبير، والتمكين السياسى، وتحقيق الرفاهية للأجيال الحالية والمستقبلية.
وعليه، فإن التنمية البشرية تُلخص مقاصد الحياة وأهداف الأفراد والشعوب والغاية من تكوين الدول، حيث تعمل على توسيع خيارات الأفراد وحرياتهم فى اتخاذ قرارات العمل والإنتاج والإستهلاك والادخار.
وفي المقابل؛ هؤلاء الأفراد يعملون على زيادة الدخل واستمرار معدلات النمو، ويمكن القول بأن الهدف الرئيسى لأى حكومة ممثلة عن شعبها هو تحقيق تلك الأهداف، فإذا كان تراكم الثروة يحقق الرفاهة الاقتصادية، فإن توسيع الخيارات أشمل من ذلك، فلا يوجد دليل مؤكد على أن الثروة تساعد على توسيع الخيارات أمام الأفراد، فالعبرة باستخدامات الثروة وليست مجرد تراكمها، أو كما يقول أرسطو “إن الثروة لا تمثل الخير الذى نسعى إلى تحقيقه، فهى مجرد شىء مفيد للوصول إلى شىء اَخر”.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: تسمين الشركات الناشئة
إن ثروة الدول والمجتمعات الحقيقية هى أفراده، وعليه فيجب استخدام الثروات المادية فى تحقيق مصالح هؤلاء الأفراد وإشباع احتياجاتهم، كما يجب أن يُقاس أداء الحكومات بمدى النجاح أو الفشل فى تمكين مواطنيها من الوصول إلى “حياة مزدهرة”، فهناك العديد من الدول صاحبة أعلى نصيب للفرد من الناتج المحلى، ويقابله انخفاض فى مؤشرات التنمية البشرية، والعكس صحيح.
وعلى الرغم من تقدم مصر فى مؤشر التنمية البشرية خلال العامين الماضيين إلى المركز 105 من أصل 193 دولة، الأمر الذى يعكس الجهود الحكومية المبذولة لتقليص الفجوة التنموية ومن بينها المبادرات الرئاسية المتعلقة بالصحة وغيرها، حيث يعتمد المؤشر الصادر عن البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة على ثلاثة جوانب، طول الحياة مع الصحة الجيدة، ودخل الفرد ومستوى المعيشة، ومعدل الأمية ومستوى المعرفة، إلا أننا بحاجة لمضاعفة تلك الجهود واستدامتها من خلال الوزارات المعنية، اعتمادًا على استراتيجيات وخطط تنفيذية زمنية، خاصة فى ظل حالة عدم الاستقرار الدولية والإقليمية التي نواجهها، والتي أدت إلى زيادة الأعباء الاقتصادية وزيادة السكان بما يشكل ضغط على الموارد المتاحة “والمحدودة” قبلاً.
ويعنى ذلك أننا بحاجة، وبشكل مبدئى، إلى تعديل الخطط والاستراتيجيات الحكومية المتعلقة بالخدمات التعليمية والصحية المقدمة للأفراد بما يعمل على ضمان وصول تلك الخدمات لكافة الأفراد وبجودة مُناسبة، بالإضافة إلى ضرورة وضع هدف عام للبرامج الحكومية تحت عنوان “المساواة فى إتاحة الفرص وتوسيع الخيارات أمام كافة أفراد المجتمع”، خاصة فيما يتعلق بالتمكين الاقتصادى وعدم التمييز، والحق فى التعليم والتمتع برعاية صحية جيدة.
وعلى الرغم من تأخر الخطوات وبطئها؛ إلا أنها أفضل من الغياب، فقد جاءت الحكومة الجديدة ولأول مرة بمجموعة وزارية ونائب رئيس وزراء للتنمية البشرية، وهو أمر مستحدث على الملفات الحكومية، كما أن برنامج عمل الحكومة الصادر فى يوليو الماضى، يتضمن محور “بناء الإنسان المصرى وتعزيز رفاهيته”.
ويشتمل المحور على ملفات الإرتقاء بالتعليم وجودته وتعديل المناهج لتتناسب مع احتياجات سوق العمل، والتوسع فى المنشآت الصحية وتوفير احتياجاتها، بالإضافة إلى ملفات الرياضة والثقافة والصحة العامة، مع عدد من المستهدفات فى هذا المحور أبرزهم، 85% نسبة تغطية التأمين الصحى للسكان، 94% نسبة تغطية الإنتاج المحلى من صناعة الدواء لاحتياجات السوق، 6.5% معدل بطالة مستهدف للعام 2026-2027.
ومنذ أيام، أطلقت الحكومة مبادرة “المشروع القومى للتنمية البشرية” بهدف ضمان استفادة جميع المواطنين من جميع موارد الدولة بعدالة وفاعلية، وينقسم المشروع إلى خمسة محاور هى التعليم، والصحة، والرياضة، والثقافة، والعمل، بالإضافة إلى عدد من المبادرات الفرعية الخاصة بتدريب وتثقيف والعناية بصحة صغار وكبار السن والمسنين.
إن هذه المبادرة، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي نمر بها، بإمكانها خلق المزيد من الفرص لأفراد هذا الشعب، لتمكننا من عبور عنق الزجاجة العالقين به منذ عقود مضت، فضلاً عن خلق مزاج عام إيجابى لدى كافة أفراد المجتمع، نظراً لكونها تعكس الرغبة الحقيقية لكافة أفراد هذا المجتمع، والتى نُنادى بها منذ سنوات بضرورة الإستثمار فى رأس المال البشرى، وضرورة ضبط الإنفاق العام ليتماشى مع رغبات أفراد هذا المجتمع من دافعى الضرائب، والذين ما زالت بحوث الإنفاق تشير إلى استهلاك أكثر من ثلثى دخلهم على تعليم أبنائهم وتلقى الخدمات الصحية.
وفى النهاية؛ لن تتحقق تنمية ولن تُستدام دون سياسات تنفيذية واضحة تدعم تنمية الأفراد ورعايتهم، فلا يمكن لجاهل أو مريض أو عاطل تقديم أى جهود للمجتمع سوى الجريمة والتخريب.