واصلت أسعار الذهب تألقها ليواصل المعدن الأصفر تسجيله مستويات وقممًا تاريخية جديدة متخطيًا مستوى 2600 دولار للأونصة، وسط توقعات باستمرار مكاسبه حتى أوائل العام المقبل.
وسجل الذهب مكاسب تصل لأكثر من 24% منذ بداية العام، بعد أن أسهمت عدة عوامل في ارتفاع المعدن الثمين وعلى رأسها توقعات خفض أسعار الفائدة التي ظلت عند أعلى مستوياتها منذ عقدين على مدار أكثر من عامين، واستمرار التوترات الجيوسياسية مثل الصراع الدائر في غزة وسط مخاوف من اتساع نطاقه، إضافة إلى استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.
وخلال تعاملات اليوم، سجل سعر الذهب في التعاملات الفورية 2588.81 دولار للأونصة، فيما تجاوز 2615 دولارا للأونصة في التعاملات الآجلة تسليم شهر ديسمبر المقبل وفقًا لموقع بلومبيرج، لتتجاوز مكاسب الذهب 34% خلال عام.
وتوقع تقرير صدر عن “جولدمان ساكس” قبل عدة أيام أن أسعار الذهب سوف تواصل الصعود حتى أوائل عام 2025، ليبلغ مستويات قياسية جديدة.
وتوقع التقرير أن يصل السعر إلى 2700 دولار بحلول أوائل العام المقبل، بدعم من تخفيضات أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي وعمليات شراء الذهب من قبل البنوك المركزية في الأسواق الناشئة.
وأفاد التقرير بأن المعدن قد يحصل على دفعة إضافية إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية جديدة ضد إيران أو روسيا، أو إذا تزايدت المخاوف بشأن عبء الديون الأمريكية.
وأوضح التقرير أن الذهب هو الخيار المفضل على المدى القريب (السلعة التي يتوقعون ارتفاعها على المدى القصير)، وهو أيضًا التحوط الأفضل بحسب “جولدمان ساكس” ضد المخاطر الجيوسياسية والمالية.
العامل الثاني الذي يرى التقرير أنه يقدم دعمًا لسعر الذهب حتى أوائل 2025 هو الصدمات الجيوسياسية المحتملة، إذ يقدم الذهب نفسه كأداة فعّالة للتحوط ضد تلك الصدمات.
وارتفع سعر الذهب بنسبة 40% في السنوات الثلاث الماضية، ونحو 60% في السنوات الخمس الماضية، ونحو 500% في السنوات العشرين الماضية.
ويحتفظ المستثمرون بنحو 3.3 تريليون دولار من الذهب، وفقًا لبنك جي بي مورجان تشيس، أي 1.4% من قيمة جميع الاستثمارات العالمية.
العامل الثالث والأخير الذي يلعب دورًا مهمًا في صعود المعدن الأصفر بحسب التقرير هو توقعات خفض أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي خلال الأسبوع الجاري، إذ تميل أسعار الفائدة المرتفعة إلى جعل الذهب، الذي لا يقدم عائدًا، أقل جاذبية للمستثمرين.
ويشير التقرير إلى ثلاثة عوامل على وجه الخصوص يمكن أن تدفع أسعار الذهب إلى الارتفاع على رأسها مشتريات البنوك المركزية، إذ إنه منذ غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، كانت البنوك المركزية تشتري الذهب بوتيرة سريعة، ما يقرب من ثلاثة أضعاف المبلغ السابق.
وعلى الأرجح سيبدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تخفيضات أسعار الفائدة التي طال انتظارها الأسبوع الحالي بخفض ربع نقطة مئوية، في سعيه إلى تقليل احتمالات الركود مع إحجامه عن اتخاذ إجراءات أكثر عدوانية بسبب استمرار مستويات التضخم.
ويرى نحو 20% من المتابعين فرصة لخفض أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية في اجتماع السياسة الذي سيعقده بنك الاحتياطي الفيدرالي يومي 17 و18 سبتمبر، في حين تتوقع الأغلبية خفض سعر الفائدة بنحو ربع نقطة مئوية يوم الأربعاء المقبل بحسب رويترز.
وأبقى صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي على سعر الفائدة للبنك المركزي الأمريكي في نطاق 5.25-5.50% منذ يوليو من العام الماضي للحفاظ على مستويات التضخم ووضعه على المسار الصحيح نحو هدفهم البالغ 2%، إلا أنهم يرغبون في تقليص سعر الفائدة قريبًا لمنع تباطؤ سوق العمل.
أظهرت البيانات في وقت سابق من الشهر الحالي أن التوظيف في الولايات المتحدة تباطأ في الأشهر الأخيرة، لكن انخفاض معدل البطالة إلى 4.2% في أغسطس الماضي قدم بعض الطمأنينة لأصحاب القرار بالفيدرالي بأن سوق العمل لا تحتاج إلى دعم قوي فوري منهم.
ويتوقع العديد من الخبراء بلوغ سعر الفائدة في نهاية العام عند 4.25-4.50%، وهو المسار الذي من شأنه أن يتضمن خفض أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية في أحد اجتماعَي بنك الاحتياطي الفيدرالي الأخيرين هذا العام.
ومن المرجح أن تعيد تخفيضات أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي المستثمرين الغربيين إلى سوق الذهب بعد غيابهم إلى حد كبير خلال فترة شهد فيها المعدن ارتفاعاً حاداً على مدى العامين الماضيين.
يرى التقرير أن الذهب قد يرتفع بنحو 15% في ظل زيادة وتيرة فرض العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية ضد دول وكيانات متعددة، فيما قد يحقق الذهب مكاسب مماثلة إذا تفاقمت أزمة الديون المتزايدة في الولايات المتحدة.
وأصبح إقبال الدول على زيادة احتياطيات البنوك المركزية من الذهب بدلًا من الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الأخرى نهجًا واضحًا بعد حرب أوكرانيا عام 2022 وفرض العقوبات على موسكو وتجميد الولايات المتحدة وأوروبا الأصول الأجنبية الروسية في الخارج.
وأضافت البنوك المركزية 1037 طناً من الذهب في عام 2023، وهو ثاني أعلى استحواذ سنوي في التاريخ، بعد أن سجلت رقماً قياسياً قدره 1082 طناً في عام 2022، وفقًا لمجلس الذهب العالمي.
ولم يعد الذهب مجرد تحوط تجاه الاضطرابات الاقتصادية نتيجة الصراعات أو التضخم وأسعار الفائدة فقط، إنما أصبح وسيلة للتحوط ضد العقوبات خاصة التي تفرضها الولايات المتحدة، لذا قامت البنوك المركزية في دول مثل روسيا وتركيا والصين بزيادة نصيب الذهب من احتياطياتها في الفترة الأخيرة.
هذا الأمر دفع صندوق النقد الدولي، للتعليق على هذا التوجه في تقرير صدر عنه أبريل الماضي، قائلًا إن “مشتريات الذهب من قبل بعض البنوك المركزية قد تبدو مدفوعة أساسًا بالمخاوف من أخطار العقوبات”.
وأوضح التقرير أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه احتياطيات الذهب لدى الصين وروسيا والدول المماثلة فإن “مستوى نصيب الذهب من الاحتياطيات الأجنبية في دول الكتلة الأميركية لم يشهد تغيرًا كثيرًا”.
وارتفع الدين الأمريكي حاليًا إلى 35.3 تريليون دولار، ليزيد متوسط تكلفة سداد الفائدة على كل هذا الاقتراض مؤخرًا إلى 3 مليارات دولار يوميًا مقابل مليارَي دولار قبل عامين تقريبًا، بحسب تقرير مجلة فورتشن نشرته هذا الشهر.
وتضاعف الدين الوطني الأمريكي على مدى العقد الماضي، حيث ارتفع من 17.64 تريليون دولار في نهاية عام 2014 إلى 35.35 تريليون دولار حتى الأسبوع الماضي.
مكاسب المعدن الثمين تأتي وسط توقعات بأن استمرار ارتفاع أسعار الفائدة قد يؤثر على نمو الاقتصاد العالمي في ظل زيادة تكلفة الاقتراض، ورغم أن الفائدة قد نجحت في كبح جماح التضخم فإن طول فترة ارتفاعها أثار المخاوف بأن الاقتصاد العالمي على حافة الانكماش.
ورغم أن هذا قد يبدو مخالفًا للبديهة، فإن الذهب يمكن أن يكون بمثابة تحوط فعّال ضد الانكماش كما هو الحال ضد التضخم، والواقع أن القوة الشرائية للذهب من المرجح أن تزيد في فترات الانكماش أكثر من فترات التضخم.
وتشير السوابق التاريخية إلى أن قيمة الذهب كانت أقوى خلال فترات الانكماش، وزادت القوة الشرائية للذهب بشكل كبير خلال فترة الانكماش في الولايات المتحدة في الفترة 1929-1933.
كما قدم كتاب “الثابت الذهبي”، الذي كتبه “روي جاسترام” منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأعيد نشره مؤخرًا بعد إضافة مواد جديدة للخبير الاقتصادي “جيل ليلاند”، دراسة الذهب على مدى سلسلة من فترات التضخم والانكماش، والتي تعود إلى القرن السابع عشر في إنجلترا والقرن التاسع عشر في أمريكا.
وبحسب الكتاب فإنه في إنجلترا، على مدى القرون الأربعة الماضية، فقد الذهب قوته الشرائية في كل فترة من فترات التضخم؛ بنسبة تتراوح بين 21 إلى 67%، وتتشابه القصة مع اختلاف التفاصيل في أربع فترات من أصل خمس فترات من التضخم في الولايات المتحدة خلال القرنين الـ18 و19.
لكن قيمة الذهب ارتفعت في كل من الفترات الانكماشية الأربع منذ القرن السابع عشر في إنجلترا، وزادت القوة الشرائية للذهب بنسبة تتراوح بين 42 و251% خلال تلك الفترات.
في الولايات المتحدة، كانت هناك ثلاث فترات انكماشية مسجلة، وزاد الذهب من قوته الشرائية في كل منها بنسب تتراوح بين 44 و100% خلالها.
قدم تراجع الدولار الأمريكي دعمًا إضافيًا للمعدن النفيس، إذ يصبح الذهب أرخص بالنسبة للمستثمرين الذين يحملون عملات أخرى مع ضعف عملة الولايات المتحدة، ما يزيد الطلب عليه.
وانخفض الدولار الأمريكي يوم الجمعة الماضي إلى أدنى مستوى له فيما يقرب من تسعة أشهر مقابل الين الياباني بعد أن غذت التقارير الإعلامية التكهنات بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يقدم خفضًا كبيرًا في أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في اجتماعه المقبل.
في الوقت نفسه، ارتفع اليورو بنسبة 0.08% مقابل الدولار الأمريكي إلى 1.1083 دولار.
وجاء تراجع الدولار أمام اليورو بعد أن خفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس يوم الخميس الماضي، لكن رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد خففت من التوقعات بخفض آخر لتكاليف الاقتراض الشهر المقبل. ودفعت مكاسب اليورو مؤشر الدولار إلى الانخفاض بنسبة 0.08% إلى 101.08.
وقال “جون فيليس”، الخبير الاستراتيجي في شؤون الصرف الأجنبي والاقتصاد الكلي في بنك نيويورك ميلون في بوسطن، إن “زيادة احتمالات تبني سياسة أكثر تسامحًا من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي دفعت الدولار إلى الانخفاض ودفعت الكثير من العملات الأخرى إلى الارتفاع”.