فى أى مدرسة ثانوية أمريكية نشهد انتخابات لرئاسة الفصل، عادةً ما يقدم المرشحون وعودًا جذابة مثل بيتزا مجانية فى الغداء أو استراحات بلا حدود، رغم أنها تتجاوز قدرتهم على تحقيقها.
هذا الدافع نفسه يقود الخطابات الاقتصادية الأخيرة لكل من كامالا هاريس ودونالد ترامب فى الولايات المتأرجحة، حيث يعرض كل منهما رؤى متنافسة تعد بتحقيق المدينة الفاضلة “اليوتوبيا” دون تقديم تنازلات أو حلول واقعية.
وكلاهما يقترح إنفاقًا مرتفعًا، وضرائب منخفضة، ويتجاهلان العجز المالى، مع وعود بنمو اقتصادى مرتفع وتضخم متراجع.
فى خطاب ألقته فى 25 سبتمبر فى بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا، وصفت هاريس نفسها بأنها رأسمالية براجماتية، مؤكدة التزامها بسياسات بايدن الاقتصادية المعروفة باسم “بايدنوميكس” عبر توسيع الإعانات الحكومية للإسكان، ورعاية الأطفال، والتصنيع المحلى.
بينما عرض ترامب فى اليوم السابق بمدينة سافانا بولاية جورجيا، خطة لـ”نهضة صناعية” لأمريكا، حيث تعهد بموجبها باسترجاع وظائف من دول أخرى عبر تقديم تخفيضات ضريبية وتخفيف اللوائح التنظيمية وفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على السيارات المصنعة فى المكسيك.
وفى خطاب طويل ألقاه فى ووكر بولاية ميشيجان فى 27 سبتمبر، حذر ترامب من أن صناعة السيارات الأمريكية ستواجه خطر الانقراض إذا لم يُنتخب مجددًا، حسب ما نقلته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
وتستمر سياسات ترامب الاقتصادية، المعروفة باسم “ترامبونوميكس” فى تحطيم إرث “ريجانوميكس” الذى شكل أساس السياسات الاقتصادية للحزب الجمهورى لعقود، فقد تخلى ترامب عن مبدأ التجارة الحرة وتجاهل المخاوف حول الدين الوطنى، كما تبنى سياسات أكثر ودية تجاه النقابات وإعانات الطبقة العاملة.
انضم الكثير من الأمريكيين من الطبقة العاملة إلى الجمهوريين، ما دفع الحزب إلى تبنى مواقف أكثر دفئًا تجاه النقابات، والائتمانات الضريبية، والعمال ذوى الأجور المنخفضة، وهى قضايا كانت فى السابق مرتبطة بالديمقراطيين فى المقام الأول.
تتضمن النسخة الجديدة من “ترامبونوميكس” رسومًا جمركية ضخمة، وتخفيضات ضريبية للشركات تصل إلى 15%، بالإضافة إلى إعفاءات ضريبية للأفراد، مثل عدم فرض ضرائب على الأجور من الإكراميات والمزايا الاجتماعية.
كما يطمح ترامب إلى تقليص اللوائح بشكل كبير، حيث اقترح إزالة عشر لوائح مقابل كل لائحة جديدة، مقارنة بتعهده السابق بإزالة اثنتين فقط.
اما بخصوص الصين، فاقترح ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 60% على وارداتها، ورسوم عامة بنسبة 20% على الواردات من دول أخرى.
وقدرت مؤسسة الضرائب، وهى جهة غير حزبية، أن خطط ترامب قد تكلف 1.3 تريليون دولار خلال العقد القادم، بينما يقدر محللون آخرون أن التكاليف قد تصل إلى 4 تريليونات دولار إذا تصاعدت الحرب التجارية، مما سيقضى على أى مكاسب اقتصادية ناجمة عن التخفيضات الضريبية.
من جانب آخر، تم تطوير “بايدنوميكس” كرد فعل على “ترامبونوميكس”، حيث تم استيعاب الرغبة فى حماية الصناعات الحيوية لكن مع إضافة أجندة تقدمية مستوحاة من بيرنى ساندرز وإليزابيث وارين، مثل الصفقة الخضراء الجديدة والرعاية الصحية للجميع وإلغاء ديون الطلاب، بتمويل من ضرائب عالية على الأثرياء.
خلال هذه التغيرات الاقتصادية، ظلت هاريس هادئة نسبيًا، ففى عام 2019، تبنت بعض أفكار اليسار التقدمى، لكنها تراجعت عنها لاحقًا عندما تغيرت الرياح السياسية.
وفى خطاباتها الأخيرة ووثيقتها السياسية التى تمتد على 82 صفحة، والمعروفة باسم “كامالانوميكس”، لم تقدم هاريس رؤية جديدة.
بدلاً من ذلك، بدأت هاريس فى توضيح وعودها المتعلقة بـ”اقتصاد الفرص” و”طريق جديد للمضى قدماً”.
وتسعى، مثل بايدن، إلى “إكمال المهمة” فى خطة “إعادة البناء بشكل أفضل”، من خلال تمرير زيادات ضريبية على الشركات والأرباح الرأسمالية للأثرياء، بما فى ذلك الأرباح غير المحققة، وهى الزيادات التى فشل بايدن فى تمريرها.
ومن الناحية النظرية، تطمح هاريس لاستخدام هذه الزيادات الضريبية لتمويل توسيعات سخية ودائمة للإعفاء الضريبى للأطفال تصل إلى 6000 دولار للمواليد الجدد، بالإضافة إلى تقديم رعاية أقل تكلفة للأطفال وكبار السن، مع تحسين أجور العاملين فى مجال الرعاية.
ستقدم هاريس ائتمانات ضريبية جديدة تشمل مساعدات بقيمة 25 ألف دولار للدفع المقدم لشراء أول منزل، وائتمان موسع يصل إلى 50 ألف دولار لمؤسسى الشركات الناشئة، بالإضافة إلى ائتمان ضريبى جديد تحت اسم “أمريكا إلى الأمام”، الذى يدمج سياسات صناعية تدعم تكنولوجيا الصلب النظيف، والتكنولوجيا الحيوية، ومراكز البيانات المستخدمة للذكاء الاصطناعى، وأشباه الموصلات.
كما تشير خطتها إلى إصلاحات لزيادة العرض، مثل تسريع عملية التصاريح وإزالة قوانين تقسيم المناطق التى تعيق بناء المنازل، وذلك لضمان أن هذه الاستثمارات لا ترفع الأسعار فقط.
فى الوقت نفسه، تصور هاريس نفسها كمدافع عن الشعب ضد تجاوزات الأثرياء والشركات الكبرى.
ومن الملاحظ أن نهجها يعكس تحولًا فى مواقف الحزبين، حيث تنتقد هاريس سياسات “ترامبونوميكس” باعتبارها غير صارمة بما فيه الكفاية.
فقد بدأت فى مهاجمة اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا “USMCA” التى تفاوض عليها ترامب لتحل محل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا”، زاعمة أنها لم تقدم الحماية الكافية للعمال الأمريكيين.
كما اتهمت ترامب بالتساهل مع الصين فى تسليم إنتاج أشباه الموصلات و”سيارات المستقبل”، واصفة إياه بأنه “أحد أكبر الخاسرين فى تاريخ التصنيع الأمريكى” بسبب انخفاض عدد الوظائف فى هذا القطاع بمقدار 200 ألف وظيفة خلال فترة رئاسته.
ومع أن هذه الأرقام تعكس بعض التلاعب الإحصائى، فإن الوظائف فى قطاع التصنيع ارتفعت من 12.4 مليون إلى 12.8 مليون خلال فترة حكم ترامب قبل أن تتراجع بسبب جائحة كوفيد-19.
كما سارعت هاريس إلى تقليد بعض وعود ترامب، مثل عدم فرض ضرائب على الإكراميات.
ورغم انتقادها فرض الرسوم الجمركية التى يقترحها ترامب، والتى تعتبرها بمثابة “ضريبة مبيعات وطنية” جديدة على الأمريكيين، فإنها ستحتفظ بالرسوم التى فرضها ترامب على الصين.
ومع ذلك، تختلف الرؤى الاقتصادية لكل من ترامب وهاريس، على الرغم من أنهما يقدمان نفسيهما كمدافعين عن الصناعة.
فبينما يسعى ترامب إلى فرض رسوم جمركية على جميع الواردات، تركز هاريس على تحسين الإعانات الموجهة للتكنولوجيا الخضراء.
وبينما يعتقد ترامب أن التخفيضات الضريبية الواسعة ستنعش الاقتصاد، تدعو هاريس إلى فرض ضرائب أعلى على الأثرياء وتقديم مساعدات أكبر للفئات الفقيرة لتقليص الفجوة الاقتصادية.
وعلاوة على ذلك، فى حين يسعى ترامب إلى تقليص اللوائح التنظيمية، ترى هاريس أن الدولة يجب أن تلعب دورًا فى توجيه النمو الاقتصادى فى الاتجاه الصحيح.
ورغم اختلاف استراتيجياتهما، يشترك كلاهما فى تجنب تقييم تكاليف مقترحاتهما، حيث يعتقدان أن الفوائد التى ستحققها خططهما واضحة وكبيرة بما يكفى لتبرير تلك التكاليف.