بينما تتمدد الحرب في المنطقة، وتدخل عامها الأول غداً الاثنين، تواجه اقتصادات دول الصراع، لاسيما إسرائيل ولبنان، سيناريوهات أحلاها مرّ، بما يهدد بتبدّد مليارات الدولارات، ناهيك عن فقدان المزيد من الأرواح وهي الخسارة الأفدح.
لبنان الذي يتعرض لغارات مدمرة متواصلة من قِبل إسرائيل، سيتأثر بشدة من الحرب وقد يتآكل حوالي 10%من ناتجه المحلي.
في المقابل، ستواجه إسرائيل خسائر مؤلمة، ستطال آثارها بالدرجة الأولى قطاعات التكنولوجيا والسياحة والاستثمار الحيوية لاقتصادها، وفق محللين وخبراء تحدثوا لـ”الشرق”.
ضغوط الاشتباكات العسكرية على إسرائيل
يواجه اقتصاد إسرائيل تحديات كبيرة حالياً بسبب الضغوط التراكمية للاشتباكات العسكرية المستمرة، ففي الأمد القريب؛ “سيكون تأثير الحرب هو تحويل مواردها نحو الأغراض العسكرية بعيداً عن القطاع الخاص. وبالتالي، سيوفر الإنفاق العام بعض الدعم للناتج المحلي الإجمالي، لكن نشاط الاستثمار الخاص -سواء في قطاع الأعمال أو البناء- سيظل منخفضاً”، وفق فريق إدارة المخاطر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “بي إم أي BMI” التابعة لـ “فيتش سوليوشنز”.
ورجح محللو “بي إم أي” أن يكون التأثير الاقتصادي الرئيسي على المالية العامة مع تفاقم العجز إلى 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، و6% في 2025، مقارنةً بـ4.2% العام الماضي.
وفي أحدث تقاريرها، تتوقع مؤسسة الأبحاث أن ينمو اقتصاد إسرائيل دون توقعات الحكومة إلى 1% في 2024 و3.5% العام المقبل.
بوادر ضعف الاقتصاد الإسرائيلي
بدأت علامات على ضعف الاقتصاد الإسرائيلي تظهر، وإحداها هي عدم تعافي الاقتصاد بعد أن عاد 300 ألف جندي احتياطي تركوا وظائفهم عقب أحداث 7 أكتوبر 2023 إلى أماكن عملهم، بحسب سيجا توماس، الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات “Ensah Advisory Partners”.
وأضاف أن العمليات العسكرية المستمرة، التي تشمل تكاليف المعدات والخدمات اللوجستية والأفراد، تفرض ضغوطاً متزايدة على المالية العامة للبلاد، وهو ما جعل وزير المالية الإسرائيلي يطالب المشرعين بالموافقة على زيادة عجز الميزانية لتلبية المطالب المتزايدة للإنفاق العسكري.
للمرة الثانية هذه السنة، خفضت “إس آند بي S&P” تصنيفها الائتماني لإسرائيل إلى “A” من “+A”، وأبقت على نظرتها المستقبلية السلبية، بفعل الزيادة الكبيرة في المخاطر الجيوسياسية والأمنية.
وتأتي خطوة الوكالة بعدما قامت زميلتها “موديز” الشهر الماضي بتخفيض التصنيف إلى “Baa1” من “A2″، والإبقاء على نظرتها السلبية حيال التصنيف، وتوقعت عدم تحقيق الناتج المحلي لإسرائيل هذا العام أي نمو.
عام على حرب غزة.. زلزال خسائر يضرب اقتصاد إسرائيل وسط مستقبل غامض
“ستتزايد الضغوط على اقتصاد إسرائيل نتيجة للحرب المستمرة بعد تعدد الجبهات وبلوغ عتبات الحرب الشاملة”، بحسب محمد شهاب الإدريسي، المدير التنفيذي في معهد الدراسات المستقبلية.
وقال: “انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.1% في الأسابيع التي تلت السابع من أكتوبر 2023، واستمر الانحدار حتى عام 2024، حيث انخفض بنسبة 1.1% و1.4% إضافية في الربعين الأول والثاني”.
وأشار الإدريسي إلى أن الحرب ستؤدي إلى “خسارة اقتصاد إسرائيل الرفاه لصالح استمرار تغذية الآلة العسكرية شديدة التكلفة”، منوّهاً بأن “اقتصاد الحرب قادر على الاستمرار لثلاث سنوات على الأقل، بينما اقتصاد الدولة يفقد أهم رافعة وهي الاستثمار، خاصة مع نزوح الودائع من الجهاز المصرفي الإسرائيلي إلى الخارج، وهذه الأمور مرشّحة للتصاعد مع توسع الحرب”.
ضربات لقطاعات حيوية
أكبر المخاوف التي تواجه الإسرائيليين هو التأثير المحتمل على قطاع التكنولوجيا الفائقة، وهو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي في البلاد، كما أفاد توماس.
واعتبر رئيس “Ensah Advisory Partners” أن إعادة تخصيص الموارد نحو الدفاع والأمن “من شأنه أن يعطل هذا القطاع الحيوي، في حين يهدد الصراع المستمر بتقويض ثقة المستثمرين وتقليص عائدات السياحة”.
وشدّد توماس على أن “السياحة والتكنولوجيا ضروريان للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في إسرائيل، واستمرار الصراع أو تصعيده قد يؤدي إلى نكسات أشد وطأة، وزيادة الإنفاق العسكري قد تؤدي إلى تحويل التمويل بعيداً عن مشاريع البنية الأساسية المدنية، الأمر الذي يزيد من تقييد النمو الاقتصادي في الأمد البعيد”.
وفي الأمد القريب، رجّح أن تواجه إسرائيل ضغوطاً تضخمية وتباطؤاً في نمو الناتج المحلي الإجمالي، مدللاً على تقديراته بتباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 0.7% على أساس سنوي بين أبريل ويونيو، ومعتبرًا أن العواقب طويلة الأجل على اقتصاد إسرائيل تعتمد إلى حد كبير على مدة الاشتباكات العسكرية ومدى استقرار المنطقة.
خفض الخدمات ورفع الضرائب
أفادت شركة المعلومات التجارية الإسرائيلية “كوفاس بي دي آي Coface Bdi”، بأن نحو 46 ألف شركة أغلقت أبوابها منذ بداية الحرب وحتى يوليو الماضي، وأن 75% منها شركات صغيرة، بما يشير إلى ضائقة كبيرة في القطاع الخاص.
مع ذلك، فإن اقتصاد إسرائيل “قد يستطيع امتصاص الضغوط المالية الناجمة عن الحرب في الأمد القريب، لكن ذلك قد يأتي على حساب النمو في الأمد البعيد”، كما رجّح توماس.
وأضاف أن صناعة الأسلحة في البلاد، بدعم من التحالفات الدولية القوية، وخاصة مع الولايات المتحدة، تشكل أساساً متيناً للاقتصاد، لكن رغم أنه يمكن أن تساعد صادرات الأسلحة على تعويض بعض التكاليف، إلا أن الحرب الطويلة قد تجبر الحكومة على خفض الخدمات العامة، أو رفع الضرائب، أو زيادة الدين العام.
المساعدات الأمريكية وتمويل الحرب
قدمت الولايات المتحدة تاريخياً مساعدات عسكرية كبيرة لإسرائيل، تجاوزت 300 مليار دولار منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي حين لا يستبعد توماس مواصلة هذا الدعم، فإنه ينبّه إلى أن الدعم المالي المتزايد لإسرائيل، إلى جانب الإنفاق العسكري الحالي، قد يؤدي إلى تعميق العجز الأميركي، وخاصة إذا توسعت المشاركة العسكرية الأمريكية في المنطقة.
تعتزم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”؛ إنفاق حوالي 1.2 مليار دولار لصيانة السفن الحربية المشاركة في العمليات العسكرية في البحر الأحمر، بجانب تجديد مخزونات الصواريخ التي أُطلقت لصد الهجمات الإيرانية ووكلائها، وفقاً لوثائق حديثة.
هذه الأموال تعتبر دعماً غير مباشر لإسرائيل، إذ أن الولايات المتحدة أطلقت نحو 12 صاروخاً من طراز “ستاندارد ميسايل” يوم الثلاثاء الماضي للدفاع عن إسرائيل ضد هجمات إيران، بتكلفة إجمالية تصل إلى حوالي 120 مليون دولار.
وتطلب الإدارة الأمريكية حالياً 1.2 مليار دولار لدعم العمليات العسكرية في المنطقة، كما نقلت بلومبرج عن مصادر.
إلى جانب هذه المساعدات، لا يزال موقف المالية العامة لإسرائيل قوياً نسبياً، حيث تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى بقليل من 60%، ما يشير إلى أن لديها الكثير من الحيز المالي لتمويل الحرب لمدة عام آخر، بحسب “بي إم آي”.
وأضاف فريق إدارة المخاطر لدى المؤسسة أنه “كلما طالت مدة احتفاظ إسرائيل بمستواها الحالي من الكثافة العسكرية، كلما زادت الضغوط الاقتصادية. حيث ستشتد قيود العرض في جميع أنحاء الاقتصاد، مما يضع ضغوطاً تصاعدية على التضخم، في حين سيعاني قطاع التكنولوجيا المهم من نقص العمالة المحلية الماهرة ويصبح أقل جاذبية للعمال الأجانب”.
تأثير الحرب على لبنان
من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد اللبناني بين 10% إلى 15% هذا العام على افتراض أن إسرائيل لن تستهدف البنية التحتية لبيروت، بناءً لمحللي “BMI”.
وأشاروا إلى أن تأثير الحرب أقل بكثير من الأزمة المزدوجة -الاقتصادية وجائحة كورونا- في 2020 والتي أدّت إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 26%.
حدد المحللون 3 محاور رئيسية لتأثير الحرب على لبنان:
- النزوح الجماعي والأضرار المادية الكبيرة: حتى اليوم، يُقدَّر عدد النازحين بحوالي مليون شخص، أي ما يمثل 20% من السكان، وسيستمر العدد في الارتفاع مع دعوة الجيش الإسرائيلي لإخلاء مناطق أوسع من بيروت، وفي الوقت نفسه، يتوقع محللو “بي إم آي” أن يتجاوز الضرر المادي المباشر 5 مليارات دولار، بما يعادل 15% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العام، وهذا الضرر يتجاوز الخسائر المباشرة البالغة 2.8 مليار دولار التي نتجت عن حرب 2006 واستمرت 33 يوماً، وشملت غارات جوية في جميع أنحاء لبنان، مع أضرار جسيمة لحقت ببيروت، مع إغلاق المطار وتعطيل كامل للنشاط الاقتصادي في معظم أنحاء البلاد.
- تعطيل النشاط في القطاعات الرئيسية: سيؤدي الضرر المادي الهائل والنزوح إلى تعطيل النشاط التجاري، حيث اضطرت العديد من الشركات إلى إغلاق عملياتها. في حين ألحقت الغارات الجوية والحرائق، خاصة مع استخدام الفسفور الأبيض، أضراراً بالغة بالأراضي الزراعية في أنحاء البلاد، كما أثرت الهجمات الإسرائيلية على البنية التحتية للاتصالات في بيروت والجنوب، وهذا من شأنه أن يؤثر أيضاً على العمل عن بعد، والذي أصبح جزءاً كبيراً من الاقتصاد منذ أزمة 2019.
- فقدان الدخل: سيؤدي الضرر المادي الهائل والنزوح والاضطراب في النشاط الاقتصادي إلى خسائر مباشرة في الوظائف ومصدر الدخل لأكثر من 30% من القوى العاملة، باستثناء الخسائر غير المباشرة، ويقدّر محللو “بي إم آي” أن تبلغ خسارة الناتج الحقيقي حوالي 5 مليارات دولار، وفي الوقت نفسه، سيؤدي النزوح إلى زيادة ضغوط الأسعار على جانب الطلب، مما يتسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات والسلع الأساسية وإجبار الأسر على اللجوء إلى مدخراتها لتلبية احتياجاتها الجديدة.
بناء على ذلك، تتوقع “بي إم آي” أن يرتفع التضخم من 37.3% في الربع الثالث من عام 2024 إلى حوالي 47% في الربع الرابع من عام 2024، وقد ترتفع الضغوط التضخمية إذا أدى ارتفاع الطلب وانخفاض نشاط الشحن إلى نقص السلع الأساسية في السوق، أو إذا ظهر نقص في الدولار، مما يؤدي إلى زعزعة استقرار سعر الصرف الذي تم تثبيته منذ أغسطس 2023.
وكان وزير الاقتصاد اللبناني قد حذر في تصريحات سابقة لـ”الشرق”، من عدم استمرار استقرار سعر الليرة، في حال توسع رقعة الحرب أو طول أمدها، مضيفا أن لدى البلاد مخزوناً من المواد الغذائية يكفي لما يصل إلى 5 أشهر كحدّ أقصى.
وترى “بي إم آي” أن تدفقات التحويلات المالية القوية والمساعدات ستساعد في توفير بعض الدعم للأسر وسعر الصرف، مما يخفف جزئياً من خسائر الدخل.