شهد النظام البيئي للشركات الناشئة في مصر نموًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، مؤكداً رؤيتنا له بوصفه بيئة واسعة وديناميكية تستحق دراسة معمقة، وقد يحتاج الإلمام به وفهمه بالكامل إلى ملء كتب بأكملها، ولكنني أود أن أشارككم بعض الملاحظات الرئيسية حول محركات هذا النظام البيئي، والعوامل التي يمكن أن تدفعه نحو النمو المستدام.
الابتكار المستدام: رؤية تتجاوز جمع التمويل
في قلب مشهد الشركات الناشئة في مصر، تبرز الإمكانات الهائلة للسوق كواحدة من أكثر الجوانب الواعدة، كل يوم، تُولد أفكار جديدة، ويحلم رواد الأعمال بإنشاء المشروع الكبير القادم.
ومع ذلك، يواجه العديد من المؤسسين الشباب تحديًا كبيرًا يتمثل في السعي للحصول على التمويل، ورغم أن جمع الملايين من الدولارات وتأمين الاستثمارات من رأس المال الاستثماري إنجاز يستحق الاحتفاء به، إلا أنه لا ينبغي أن يكون الهدف الأساسي لريادة الأعمال، فالأهم هو بناء مشروع تجاري مستدام وذى تأثير، بدلاً من السعي وراء تقييمات مبالغ فيها دون رؤية طويلة الأجل.
فالشركات الناشئة المصرية يجب أن تركز على إنشاء حلول تلبي الاحتياجات الحقيقية للسوق، بدلاً من مطاردة الاتجاهات الحديثة أو تصميم منتجات لمجرد إبهار المستثمرين، وهناك حاجة ماسة لتغيير عقلية رواد الأعمال المصريين، من البحث عن مخرج سريع إلى التركيز على إحداث تأثير دائم وقيمة حقيقية، فالنجاح الحقيقي يأتي من حل المشكلات الحقيقية، وليس من الضجة المؤقتة.
التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص: ضرورة
من أجل إحياء النظام البيئي للشركات الناشئة في مصر، والتحول به إلى نظام بيئي مزدهر ومستدام، نحتاج إلى أكثر من مجرد روح ريادية فردية.
يجب أن يكون هناك جهد منسق بين الحكومة والقطاع الخاص لخلق بيئة تشجع على الابتكار والنمو المستدام.
تلعب الحكومة دورًا حيويًا في هذا السياق من خلال وضع اللوائح المناسبة، وتقديم الحوافز المالية، وتوفير الموارد للشركات الناشئة، كما يمكن أن يشمل ذلك تخفيضات ضريبية، ومنحًا للبحث والتطوير، ودعمًا للتصنيع المحلي بهدف زيادة نسبة المنتجات المصنوعة محليًا، وفي بعض الحالات، يمكن تحقيق نسبة 100% من المنتجات المحلية، مما يعزز النمو الداخلي ويفتح الأبواب للتصدير إلى الأسواق الإقليمية والدولية.
مؤمن سليم يكتب: تسمين الشركات الناشئة
وتاريخيًا، كانت مصر مركزًا إقليميًا للتعليم والطب والزراعة والفنون، ويمكن استعادة هذه المكانة من خلال القيادة المركزية والتركيز على بناء الصناعات من الصفر، ففي الماضي، كانت مصر تُعتبر “مصنعًا للشركات الناشئة” في الشرق الأوسط، ويمكننا استعادة هذا الدور من خلال التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص.
رؤية مركزية للابتكار
لعل القطعة المفقودة من الأحجية تكمن في اتخاذ القرارات المركزية، حيث ينبغي للوزارات الحيوية، مثل الزراعة والصناعة والاتصالات، أن تنشئ صناديق استثمارية متخصصة لدعم الابتكار في مجالاتها.
هذه الكيانات يمكنها تحديد التحديات الأكثر إلحاحًا داخل قطاعاتها، ودعوة رواد الأعمال المصريين لتطوير حلول مخصصة لتلك المشكلات.
وفي كثير من الأحيان، يتم التعاقد مع شركات دولية لحل القضايا المحلية بتكلفة عالية، تصل في بعض الأحيان إلى مئات الملايين من الدولارات، بينما من خلال دعم المواهب المحلية، يمكن للحكومة تعزيز الشركات الناشئة التي تعالج احتياجات مصر الفريدة، سواء من خلال التكنولوجيا أو الحلول غير التقنية، ولن يوفر هذا النهج المال فحسب، بل سيبني أيضًا نظامًا بيئيًا رياديًا أكثر قوة واعتمادًا على الذات.
تخيل الإمكانات التي تمتلكها الشركات الناشئة التي تركز على مجالات عملية وذات طلب كبير مثل الزراعة، وإعادة تدوير المخلفات الصناعية، والتصنيع. هذه صناعات ذات إمكانات نمو هائلة، ومع ذلك يتم تجاهلها غالبًا لصالح تطبيقات الهاتف أو مثيلتها من الاتجاهات قصيرة الأمد، بينما يمكن لمزرعة جديدة متخصصة في زراعة التوابل أو شركة تركز على إعادة تدوير المخلفات الصناعية أن يكون لها تأثير كبير على كل من الاقتصاد والبيئة. هذه هي نوعية الشركات الناشئة التي يمكن أن تعيد مصر إلى مكانتها كقائدة إقليمية في كل من الصناعات التقنية وغير التقنية.
النظر إلى الأمام: تشكيل مستقبل الشركات الناشئة في مصر
لكي يزدهر النظام البيئي للشركات الناشئة في مصر حقًا، نحتاج إلى التفكير خارج التعريفات التقليدية لريادة الأعمال التقنية، ويجب على المؤسسين أن يدركوا أن الابتكار يمكن أن يحدث في أي صناعة، من الزراعة إلى التصنيع إلى اللوجستيات، وأن بناء مشروع تجاري ناجح لا يقتصر على مجرد إنشاء تطبيق ذكي أو تقديم خدمة رقمية؛ بل يتعلق بحل المشكلات الحقيقية وخلق قيمة مستدامة للاقتصاد.
فالشركات الناشئة غير التقنية تلعب دوراً حاسمًا عالميًا في إبقاء الصناعات التقليدية نشيطة وفي مقدمة المنافسة والاستعداد، ناهيك عن تقديمها وجهات نظر جديدة ونماذج أعمال مبتكرة ونهجا يركز على العملاء إلى كافة الصناعات التي تعمل بنفس الطريقة منذ عقود، وهي بذلك تتحدى الأوضاع الراهنة، وتجبر اللاعبين الراسخين على رفع مستواهم، مما يعود بالنفع على المستهلكين في نهاية المطاف.
علاوة على ذلك، غالبا ما تلبي الشركات الناشئة غير التقنية الاحتياجات البشرية الأساسية، مثل المأكل والمشرب والنوم والعناية الشخصية والرعاية الصحية، وهي احتياجات لا غنى عنها بغض النظر عن مدى تقدم التكنولوجيا.
إن مفتاح هذا التحول يكمن في أيدي صانعي السياسات وقادة الصناعة، ومع وضع القوانين والحوافز المناسبة، تمتلك مصر القدرة على أن تصبح مرة أخرى مصنعًا للشركات الناشئة، تقود المنطقة في الابتكار في كل من التكنولوجيا والصناعة، ومن خلال التركيز على الحلول المستدامة التي تلبي احتياجات السوق المحلي، يمكن لمصر استعادة مكانتها كمركز إقليمي لريادة الأعمال والابتكار.
في النهاية، لا يتعلق الأمر بحجم الأموال التي يتم جمعها أو مدى سرعة نجاح الشركة الناشئة، بل يتعلق ببناء شركات قادرة على إحداث فرق، ودعم الاقتصاد، وتقديم حلول للمشاكل الحقيقية، شركات قادرة على الصمود مع مرور الزمن.