رغم أن مشروع القانون الذي قدمه جارد جولدن، عضو الكونجرس عن ولاية مين، لا يملك فرصة كبيرة ليصبح قانونًا نافذًا، إلا أنه قدم رسالة هامة عندما اقترح الشهر الماضي فرض الرسوم الجمركية بنسبة 10% على جميع الواردات إلى أمريكا.
اللافت في هذا المقترح ليس فقط أنه أول محاولة جادة لتطبيق فكرة دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية شاملة، بل أيضًا أن جولدن ينتمي إلى الحزب الديمقراطي.
هذا المشروع يُظهر كيف أصبحت الرسوم الجمركية، التي كانت تعتبر لفترة طويلة أداة قديمة للسياسة الاقتصادية، تحظى باحترام متزايد عبر أطياف مختلفة من الساحة السياسية الأمريكية.
من المؤكد أن جولدن يُعد استثناء داخل حزبه الديمقراطي.
قد سخرت كامالا هاريس، نائبة الرئيس جو بايدن، من اقتراح ترامب بفرض رسوم شاملة ووصفتها بأنها “ضريبة مبيعات وطنية”.
لكن الحقيقة غير المريحة لهاريس هي أنها أيضًا أيدت بعض الرسوم الجمركية، وإن كانت ذات نطاق أضيق، حسب ما أوضحته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
في الواقع، بعد يوم واحد من نشر جولدن مشروعه، دخلت رسوم جمركية أعلى على مجموعة من الواردات الصينية حيز التنفيذ، وهي رسوم تم تحديدها قبل عدة أشهر من قبل إدارة بايدن-هاريس، بما في ذلك ضريبة بنسبة 100% على السيارات الكهربائية الصينية المستوردة.
وفي ظل تزايد اعتماد الساسة الأمريكيين على الرسوم الجمركية، تتعدد الأسباب التي يقدمونها لتبرير استخدامها.
ولفهم هذا التفكير، يمكن دراسة هذه المبررات التي تتلخص في خمس نقاط رئيسية، وكل واحدة منها تحمل عيوبًا واضحة.
تشجيع الإنتاج المحلي
أول وأقوى مبرر للرسوم الجمركية هو أنها تعزز الإنتاج المحلي، مما يسهم في تقوية الاقتصاد.
يقول جولدن إنه “يجب أن تصبح أمريكا مرة أخرى دولة منتجة، وليس مجرد مستهلكة”.
بينما يردد ترامب: “في ظل قيادتي، سنستعيد وظائفنا التي فقدناها لصالح الدول الأخرى”.
ولكن الواقع يشير إلى قلة الأدلة التي تدعم فكرة أن الرسوم الجمركية الشاملة تزيد من التصنيع، فقد انخفضت نسبة وظائف المصانع في الاقتصاد الأمريكي منذ أن بدأ ترامب في فرض الرسوم الجمركية عام 2018.
والسبب الرئيسي هو أن الرسوم قد تمنع بعض الواردات، لكنها أيضًا تعرقل الإنتاج المحلي في البلاد.
فعندما تحل الشركات الأمريكية محل الشركات الأجنبية، تستهلك الرسوم الجمركية الموارد النادرة، سواء رأس المال أو العمالة، من الشركات ذات الأداء القوي وتوجهها نحو الشركات المحمية.
وستكون هذه الآثار السلبية أكثر وضوحًا في حالة الرسوم الجمركية الشاملة، خاصة إذا قرر ترامب فرض رسوم جمركية تصل إلى 20%، كما اقترح، مما يعيد أمريكا إلى مستويات الرسوم الجمركية في حقبة الكساد الكبير.
مصدر للإيرادات الحكومية
المبرر الثاني هو أن الرسوم الجمركية يمكن أن تكون مصدرًا كبيرًا للإيرادات الحكومية.
يقول ترامب مرارًا وتكرارًا إن “الرسوم الجمركية ستجلب مليارات الدولارات” التي يمكن استخدامها لسد العجز الفيدرالي أو تمويل تخفيضات ضريبية.
من الناحية النظرية، هذا صحيح؛ الرسوم الجمركية تولد إيرادات.
فقد استوردت أمريكا سلعًا بقيمة تريليونات الدولارات في العام الماضي، مما يعني أن رسومًا بنسبة 20% يمكن أن تجلب حوالي 600 مليار دولار سنويًا، وهو ما يكفي لتمويل العديد من تخفيضات الضرائب التي ترغب في إقرارها.
لكن المشكلة أن هذا تصور ثابت، فمع زيادة الرسوم الجمركية، تنخفض الواردات، مما يقلل من الإيرادات الحكومية المتوقعة.
علاوة على ذلك، فإن الردود الانتقامية من الدول الأخرى ستزيد من الضغط على الشركات الأمريكية التي تواجه بالفعل ارتفاعًا في تكاليف المدخلات.
وجدت دراسة أجرتها مجموعة بحثية غير حزبية تُعرف باسم “نموذج ميزانية بن وارتون” أن خوض حرب تجارية شاملة قد يؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 5% خلال عشرين عامًا، مما يشكل تهديدًا بتقليص إيرادات الحكومة بشكل كبير.
تعزيز نفوذ أمريكا
المبرر الثالث هو أن الرسوم الجمركية تعزز نفوذ الولايات المتحدة في المفاوضات التجارية، وهذا ما أشار إليه روبرت لايتهايزر، الممثل التجاري الأمريكي في عهد ترامب، عند التفاوض مع الصين عام 2020.
كما أوضحت كاثرين تاي، الممثل التجاري الأمريكي في إدارة بايدن، أن هذا المبرر هو السبب وراء الإبقاء على الرسوم الجمركية المفروضة على الصين.
لكن القوة المستمدة من الرسوم الجمركية ليست كما يُروج لها، فبعد ستة أعوام من فرض الرسوم على المنتجات الصينية، أصبحت الصين أكثر قوة كمصدر عالمي للسلع.
من الناحية الفلسفية، تتعارض الحجة التي تقول إن الرسوم الجمركية تعزز الإنتاج والإيرادات الحكومية مع الادعاء بأنها تُستخدم كأداة تفاوضية.
فإذا كانت الرسوم الجمركية مجرد وسيلة لإبرام الصفقات التجارية، فمن المنطقي تخفيضها عند التوصل إلى اتفاقيات.
لكن إذا كان المسؤولون الأمريكيون يؤمنون بالفعل بفوائدها، فلماذا قد يقدمون على تقليصها؟
تلبية احتياجات الأمن القومي
المبرر الرابع، الذي يتمتع بمصداقية أكبر بين صُناع السياسة في واشنطن، هو أن الرسوم الجمركية يمكن أن تلبي احتياجات الأمن القومي إذا تم توجيهها بشكل صحيح.
فعندما زادت إدارة بايدن الرسوم على السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات والألواح الشمسية الصينية، قالت إن هيمنة بكين في هذه الصناعات تشكل تهديدًا للأمن الاقتصادي الأمريكي.
يعود القلق الأمريكي والعالمي بشأن هيمنة الصين على التقنيات الحيوية إلى استعدادها لمنع الصادرات في أوقات الأزمات الدولية.
ومع ذلك، فإن استخدام الرسوم الجمركية لتحقيق أهداف الأمن القومي يحمل في طياته مشكلات.
فعندما يُستخدم الأمن القومي كذريعة، يصبح الأمر وسيلة لتبرير الحماية الاقتصادية، كما حدث عندما فرضت إدارة ترامب رسومًا على واردات الصلب والألومنيوم من الاتحاد الأوروبي واليابان.
إضافةً إلى ذلك، الرسوم الجمركية ليست وسيلة فعالة لمواجهة تهديدات أمنية حقيقية.
وكما أشار إد جريسر، من معهد السياسة التقدمية، وهو مؤسسة بحثية: “إذا كان هناك خطر حقيقي، فمن الأفضل حظره بدلاً من فرض ضريبة عليه”.
دعم نمو بعض القطاعات
المبرر الأخير للرسوم الجمركية هو نسخة مقلصة من المبرر الأول، فبدلاً من الادعاء بأن الرسوم الجمركية تفيد الاقتصاد ككل، يزعم مؤيدوها أنها ضرورية لدعم نمو قطاعات معينة.
فعلى سبيل المثال، زعمت إدارة بايدن أن الرسوم الجمركية الجديدة المفروضة على الصين تحمي القطاعات التي تحاول الحكومة تعزيزها عبر استثماراتها الكبيرة.
قد يبدو هذا منطقياً، لكنه في الأساس مسألة قابلة للاختبار والتقييم.
فقد أظهرت دراسة حديثة أجراها اقتصاديان في مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن الرسوم الجمركية المستهدفة التي فرضها ترامب لم تحقق النتائج المرجوة.
وعلى الرغم من أن بعض الصناعات، مثل الأجهزة المنزلية وقطع غيار السيارات، شهدت زيادة طفيفة في الوظائف بفضل الحماية التي قدمتها الرسوم الجمركية، إلا أن هذا الأثر تم تعويضه بانخفاض الإنتاجية الناتج عن الرسوم الانتقامية وارتفاع تكاليف المدخلات.
ثمن باهظ
قد يكون من الخطأ افتراض أن جميع الساسة الأمريكيين ينجذبون إلى فكرة الرسوم الجمركية.
فقد انتقد جارد بوليس، حاكم ولاية كولورادو الديمقراطي، الرسوم على الصين واعتبرها ضريبة تضر بالمستهلكين، على الرغم من أن هذا الرأي نادر في ظل القلق الواسع بشأن الصين.
لكن الأكثر شيوعًا هو معارضة مقترح ترامب بفرض رسوم جمركية شاملة، حتى من داخل حزبه، حيث عبر عدد من الجمهوريين البارزين عن رفضهم لهذه الفكرة.
وفي نهاية المطاف، تنازل الكونجرس عن سلطته في فرض الرسوم الجمركية للبيت الأبيض.
وإذا عاد ترامب للرئاسة، يمكنه رفع الرسوم دون الحاجة لموافقة الكونجرس، معتمدًا على أوامر تنفيذية، ولن تقف في وجهه سوى المحاكم.
أما الجمهوريون في الكونغرس فسيركزون جهودهم على تقديم تخفيضات ضريبية.
وكما أوضح بول وينفري، من مركز ابتكار السياسات الاقتصادية: “طالما أنهم يحققون نجاحات في مجالات أخرى، فسيصبون كل اهتمامهم عليها”.
ومن هنا، قد تنتهي قصة حب أمريكا للرسوم الجمركية بأنها مبنية على الراحة والمرونة، وليس على اقتناع حقيقي.