بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الشهر الماضي، أول دورة لتخفيف السياسة النقدية منذ أكثر من أربع سنوات، إذ خفض سعر الفائدة بنسبة 50 نقطة أساس، مما أدى إلى هبوط سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية من أعلى مستوى له خلال عقدين عند 5.3% إلى نطاق يتراوح بين 4.75% و5%.
تعتبر هذه الخطوة خبرًا سارًا للصين، التي أصبحت الآن تمتلك مساحة أكبر للمناورة في جهودها لتحفيز اقتصادها، وفقًا لتقرير موقع “بروجكت سنديكيت”.
قبل هذا التخفيض، كانت السياسات النقدية في الولايات المتحدة والصين تسير في اتجاهات متناقضة تمامًا.
فمنذ منتصف عام 2022، رفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة عشر مرات، بينما خفض بنك الشعب الصيني سعر الفائدة الأساسي، وهو سعر إعادة الشراء العكسي لمدة سبعة أيام، من 2.1% إلى 1.7%.
ورغم أن بنك الشعب الصيني كان يسعى لتخفيف سياسته النقدية بشكل أكبر، فإن الفجوة الكبيرة في أسعار الفائدة بين الولايات المتحدة والصين كانت تحول دون ذلك، إذ أدت هذه الفجوة إلى تراجع قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار الأمريكي وتراجع أسعار الأصول الصينية.
وقد تسبب هذا الاتجاه، إلى جانب الانكماش الاقتصادي العام، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة، وتباطؤ نمو السكان، في تدفق رأس المال خارج البلاد، حيث بلغت التدفقات المالية إلى الخارج حوالي 787.8 مليار دولار على مدى الثلاثة أعوام الماضية.
تفاقمت هذه العوامل وأثرت على قطاع العقارات الصيني، الذي يشكل حوالي 70% من ثروة الأسر ويسهم بنحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 14% في الولايات المتحدة.
وفي يوليو الماضي، سجلت أسعار المنازل الجديدة في الصين أكبر انخفاض لها منذ تسع سنوات، بانخفاض بلغ 30% عن ذروتها في عام 2021.
وفقًا لتقديرات “بلومبرج”، فإن كل انخفاض بنسبة 5% في أسعار المنازل في الصين يؤدي إلى فقدان نحو 19 تريليون يوان صيني (2.7 تريليون دولار) من الثروة.
إلى جانب تأثيرات انخفاض أسعار العقارات، تراجعت أسعار الأسهم بشكل ملحوظ، إذ انخفض مؤشر شنغهاي المركب بحوالي 30% من ذروته في عام 2021 حتى منتصف سبتمبر 2024. هذا الوضع أثر سلبًا على الاستهلاك المحلي.
في الوقت ذاته، رغم أن أسعار الفائدة المرتفعة في الولايات المتحدة أثرت أيضًا على سوق العقارات الأمريكية، إلا أن ارتفاع قيمة الأسهم الأمريكية عوض تأثيرها على ثروة الأسر.
فقد ارتفعت قيمة سوق الأسهم الأمريكية من 40.5 تريليون دولار في نهاية عام 2022 إلى 55.3 تريليون دولار بحلول يونيو 2024، مع مساهمة “العظماء السبع” من شركات التكنولوجيا بحوالي 9 تريليونات دولار في ثروة الأسر الأمريكية.
ومع أن انتعاش سوق الأسهم الأمريكية لم يدعم فقط استهلاك الأسر والتوظيف، بل أسهم أيضًا في تغذية التضخم، فقد استمر الاحتياطي الفيدرالي في تأجيل خفض الفائدة، لكن لم يكن بإمكان الاحتياطي الفيدرالي الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة إلى الأبد، خاصةً وأن هذه الفائدة المرتفعة زادت من أعباء مدفوعات الديون الحكومية التي بلغت 35.32 تريليون دولار.
هذه المشكلة لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط، فكثير من الدول الأخرى تحتفظ بديون مقومة بالدولار الأمريكي.
تقليديًا، تسبب أسعار الفائدة المرتفعة في الولايات المتحدة انكماشًا اقتصاديًا عالميًا، وقد سمحت العديد من الاقتصادات الناشئة خلال العامين الماضيين بضعف عملاتها لتجنب تباطؤ النمو الذي قد ينتج عن رفع أسعار الفائدة المحلية، ومع ذلك، تفاقمت الضغوط الانكماشية على الاقتصاد العالمي.
مع بداية دورة التخفيف النقدي من قبل الاحتياطي الفيدرالي، أصبح العبء على سداد الديون أقل والسيولة أعلى، مما سمح للعديد من الدول بخفض أسعار الفائدة دون القلق بشأن التدفقات الكبيرة لرأس المال إلى الخارج.
بالنسبة للصين، أطلقت حزمة تحفيز نقدية جريئة بعد يومين فقط من قرار الفيدرالي.
خفض بنك الشعب الصيني نسبة الاحتياطي الإلزامي للبنوك بمقدار 50 نقطة أساس، وخفض أسعار الفائدة الأساسية وأسعار التسهيلات الإقراضية الدائمة بمقدار 20 نقطة أساس، وخفض أسعار الفائدة على الرهون العقارية القائمة والدفعات المقدمة.
علاوة على ذلك، قدمت الصين أدوات جديدة لدعم سوق الأسهم، حيث سيوفر مرفق المقايضة للأوراق المالية والصناديق وشركات التأمين ما لا يقل عن 500 مليار يوان لشراء الأسهم.
كما ستقدم البنوك التجارية ما يصل إلى 300 مليار يوان كقروض منخفضة التكلفة من بنك الشعب الصيني لمساعدة الكيانات الأخرى في تمويل شراء الأسهم وإعادة الشراء.
بالإضافة إلى ذلك، وسعت الصين برنامجها التجريبي لزيادة الاستثمار في الأسهم من قبل شركات إدارة الأصول، ودعت صناديق الاستثمار المتوسطة والطويلة الأجل، مثل صندوق الضمان الاجتماعي، للدخول إلى السوق لدعم أسعار الأسهم.
وأكد اجتماع المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني الشهر الماضي على عزم الحكومة استعادة الثقة في القطاع الخاص واستقرار الاقتصاد الكلي.
ونتيجة لذلك، ارتفعت المؤشرات الرئيسية للأسهم الصينية بشكل ملحوظ، حيث صعد مؤشر شنزن المركب بنسبة 29.2%، ومؤشر شنغهاي المركب بنسبة 20.4%، ومؤشر هونج كونج هانج سنج بنسبة 13.8%، وهو أكبر ارتفاع منذ عام 2008.
تشير هذه التحركات إلى أن الصين تتجه نحو نموذج نمو يعتمد على الاستهلاك المحلي بدلاً من الصادرات.
ورغم أن الصين كانت تتردد في اتخاذ إجراءات تحفيزية كبيرة نظرًا للمخاطر المحتملة، فإن دورة التخفيف من الاحتياطي الفيدرالي توفر فرصة لمعالجة الانكماش واستعادة الثقة في السوق المحلي، مما يمهد الطريق لإصلاحات هيكلية، خاصة في قطاع العقارات.