مع بداية ارتفاع الضغوط التضخمية عالمياً فى أوائل عام 2021، كانت البنوك المركزية فى الأسواق الناشئة سباقة فى الاستجابة، حيث بادرت البرازيل وروسيا وتركيا برفع أسعار الفائدة فى مارس من ذلك العام، وتلتها سلسلة من الدول الأخرى فى وقت لاحق.
على الجانب الآخر، تأخرت البنوك المركزية فى الاقتصادات المتقدمة فى اتخاذ قرارات مماثلة، فلم يتخذ بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى خطوة رفع أسعار الفائدة إلا فى مارس 2022، ولحقه البنك المركزى الأوروبى فى يوليو من العام نفسه.
وبحسب صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، ربما يعتقد البعض أن هذه البداية السريعة للاقتصادات الناشئة كانت ستجلب لها نتائج سريعة وحاسمة فى مكافحة التضخم. لكن الواقع أتى بشكل مختلف، إذ تراجعت معدلات التضخم فى الاقتصادات المتقدمة إلى مستوياتها المستهدفة، ما سمح للبنوك المركزية فى هذه الدول بخفض أسعار الفائدة.
وفى أغسطس من العام الحالى، انخفض معدل التضخم فى مجموعة الدول السبع إلى أقل من 2% لأول مرة منذ منتصف 2021.
فى المقابل، لا تزال الاقتصادات الناشئة تواجه تحديات أكبر لتحقيق الاستقرار. فبناءً على بيانات مجموعة تضم 16 دولة نامية رئيسية «باستثناء الصين»، فإن معدل التضخم المتوسط لا يزال عند 3.6%، وهو أعلى بنحو 0.6 نقطة مئوية من المعدل المستهدف البالغ 3%.
ورغم نجاح بعض الدول، مثل جنوب أفريقيا والمجر، فى إعادة التضخم إلى مستوياته المستهدفة، فإن العديد من الدول الأخرى لا تزال تواجه صعوبات فى ذلك.
إذن، كيف استطاعت اقتصادات مجموعة السبع التغلب على الأسواق الناشئة؟
الجواب يكمن فى ديناميكية خاصة بالأسواق الناشئة. عندما تواجه الولايات المتحدة مشاكل تضخمية، يصبح من الصعب على الاقتصادات الناشئة التعامل مع مشاكلها الخاصة، حيث تميل السياسة النقدية الأمريكية المتشددة إلى جذب رؤوس الأموال بعيدًا عن الأسواق الناشئة، ما يؤدى إلى ضعف عملاتها ويجعل من الصعب على البنوك المركزية التحكم فى التضخم.
فى الواقع، عانت العملات فى الأسواق الناشئة خلال الأعوام القليلة الماضية، إذ ارتفعت قيمة الدولار بأكثر من 10% مقارنة بمستواه فى منتصف 2021.
ورغم أن ذلك لا يعود بالكامل إلى السياسة النقدية الأمريكية، فإن هذا التناقض يمكن أن يوفر بصيصاً من الأمل للبنوك المركزية فى الأسواق الناشئة.
فمع توجه الاحتياطى الفيدرالى نحو خفض أسعار الفائدة، تفتح الفرصة أمام انخفاض قيمة الدولار، ما يمكن أن يدفع رأس المال للعودة إلى هذه الأسواق، وبالتالى دعم عملاتها والسيطرة على معدلات التضخم.
عامل آخر قد يسهم فى خفض التضخم هو الصين.فعلى الرغم من التوجهات الحالية نحو التحفيز الاقتصادى، من المتوقع أن يظل نمو الصادرات جزءًا رئيسيًا من استراتيجية بكين الاقتصادية.
تتزايد الصادرات الصينية الرخيصة فى الأسواق العالمية، فبينما يقارب معدل نمو الواردات العالمية الصفر، فإن معدل نمو الصادرات الصينية يبلغ حوالى 10%، وفقاً لمعهد «سى بى بى» الهولندى للأبحاث.
وتستمر الصين فى زيادة حصتها من السوق العالمية، خصوصاً فى الدول النامية.وفى عام 2023، تجاوز فائض الصين التجارى للمرة الأولى نصف حجمه مع دول نامية أخرى.
ورغم أن هذا الفائض قد يكون مصدر قلق للكثير من الاقتصادات الناشئة، فإنه يحمل جانباً إيجابياً يتمثل فى تأثيره المحتمل على خفض التضخم.
من جهة أخرى، تقدم البرازيل نموذجاً تحذيرياً، فبالرغم من استئنافها لسياسة التشديد النقدى، فإن السياسات المالية المتساهلة تدفع النمو الاقتصادى للحفاظ على سوق عمل قوية ومستويات عالية من تضخم قطاع الخدمات.
وفى تركيا، لا تزال السياسة المالية متساهلة بشكل كبير، وتعتمد استراتيجية البنك المركزى بشكل كبير على استقرار سعر الصرف.
ورغم أن هذا يساعد فى خفض التضخم فى السلع المتداولة، الذى يبلغ حالياً 28%، إلا أنه لا يشمل الخدمات غير المتداولة التى تسجل معدل تضخم يزيد على 73%.
ومع وجود دول أخرى قد تزداد فيها الشكوك حول الانضباط المالى، مثل المكسيك وبولندا وإندونيسيا والمجر أو تايلاند، يجب على البنوك المركزية الحذر من مخاطر السياسات المالية المتساهلة التى قد تتسبب فى ضغوط تضخمية غير مرغوب فيها.بشكل عام، ورغم عدم وجود ما يستدعى القلق الكبير، إلا أنه لا يمكن التهاون فى جهود الأسواق الناشئة للسيطرة على التضخم والوصول به إلى المستويات المستهدفة أو المقبولة.
وإذا كانت هناك نقطة ضعف قد تعيق هذه الجهود، فهى تراجع الانضباط المالى.