مر عامان منذ أن بادرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتمرير “قانون الرقائق والعلوم” الذي خصص ميزانية قدرها 52 مليار دولار كدعم مالي لتشجيع شركات أشباه الموصلات على تعزيز قدراتها الإنتاجية داخل الولايات المتحدة.
خلال هذه الفترة، فرضت الولايات المتحدة أيضًا قيوداً واسعة على تصدير التكنولوجيا المتعلقة بتصنيع الرقائق إلى الصين، وكان الهدف من هذه الإجراءات تحقيق الاكتفاء الذاتي الأمريكي في إنتاج الرقائق الدقيقة وإعاقة مساعي الصين لتحقيق نفس الهدف.
فهل آتت هذه الإجراءات ثمارها؟
تركز الجهود الأمريكية للحد من وصول الصين إلى تقنيات تصنيع الرقائق خاصة الدوائر المتكاملة الأكثر تقدماً، التي تشكل أكثر من 80% من سوق أشباه الموصلات العالمية.
وتتألف هذه الدوائر من ثلاثة أنواع رئيسية، رقائق منطقية مستخدمة في معالجة البيانات في الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر الشخصية، وذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي المستخدمة بشكل شائع في أجهزة الكمبيوتر والخوادم، وذاكرة الفلاش، بحسب تقرير نُشر على موقع “بروجكت سنديكيت”.
تنتج الصين الأنواع الثلاثة من هذه الرقائق عبر شركاتها المحلية، حيث تنتج الرقائق المنطقية شركة “إس إم آي سي”، وذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي تنتجها شركة “تشانجشين تكنولوجيز”، بينما تنتج “يانجتسي تكنولوجيز” ذاكرة الفلاش.
ورغم أن هذه الشركات ليست في موقع القيادة العالمية للصناعة، إلا أنها أحرزت تقدماً في سد الفجوة التقنية وزيادة حصتها السوقية، ومع ذلك، تستهدف الشركات الصينية الفئة المنخفضة في أسواقها، ما يجعل دخولها الفئات الأعلى أمراً أكثر تعقيداً.
ويعود ذلك إلى ارتفاع تكاليف تصنيع الرقائق المتقدمة وتعقيداتها، فضلاً عن القيود الصارمة التي تفرضها العقوبات الأمريكية، والتي تعيق وصول الشركات الصينية للتكنولوجيا اللازمة لإنتاج أشباه الموصلات المتطورة، لاسيما الرقائق التي يقل حجم عقدها عن 14 نانومتر، وذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي ذات العقد الأقل من 18 نانومتر، وذاكرة الفلاش التي تحتوي على أكثر من 128 طبقة.
فعلى سبيل المثال، تُصنع الأنظمة الضوئية المتطورة للأشعة فوق البنفسجية القصوى، والتي تُستخدم لنقل تصاميم الشرائح وتقدر قيمتها بنحو 200 مليون دولار، حصرياً من قبل الشركة الهولندية “إيه إس إم إل”.
وتمتلك شركة “تايوان لأشباه الموصلات” أكثر من 200 جهاز من هذه الأنظمة، إذ يتطلب تصنيع الرقائق المتطورة بحجم 3 نانومتر وحده ما يزيد على 50 جهازاً.
وتمتلك شركة “سامسونج إلكترونيكس” الكورية الجنوبية حوالي 50 جهازاً، أما الصين، فهي محرومة من هذه الأجهزة نتيجة للعقوبات الأمريكية.
وفي حين تتطلب الرقائق المتقدمة من فئتي المنطق وذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي (12-14 نانومتر) أنظمة الأشعة فوق البنفسجية القصوى، فإن رقائق ذاكرة الفلاش، التي تتكون من مئات الطبقات المتشابهة، لا تتطلب هذه الأنظمة، وهنا تتنافس الشركات الصينية بقوة مع قادة السوق العالميين مثل “سامسونج”.
في عام 2021، طرحت شركة “يانجتسي تكنولوجيز” ذاكرة فلاش ثلاثية الأبعاد مكونة من 128 طبقة، مما جعلها قادرة على المنافسة مع المنتجات المماثلة في السوق.
وفي أكتوبر 2023، وُجدت أحدث شريحة متقدمة من ذاكرة الفلاش ثلاثية الأبعاد ضمن قرص صلب “إس إس دي” صيني، من إنتاج “يانجتسي تكنولوجيز”، وقد تم إطلاقه بهدوء في يوليو من العام ذاته.
قد تتمكن الصين قريباً من تحقيق تقدم مشابه في سوق ذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي، مما سيعزز مساعيها نحو الاكتفاء الذاتي في إنتاج الرقائق الدقيقة.
فإنتاج شرائح الذاكرة عالية النطاق الترددي، وهي نوع متقدم من ذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي، لا يتطلب بالضرورة تقنيات الأشعة فوق البنفسجية المتطورة، كما أن تصنيعها يعد أسهل مقارنةً بذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي التقليدية التي يقل حجم عقدها عن 10 نانومتر.
وهذا يتيح للصين إمكانية إنتاج رقائق بمدى 17-19 نانومتر دون الحاجة إلى أحدث المعدات، كما تمتلك الصين ميزات متقدمة في تقنيات التغليف، مثل تقنية عبر السيليكون، الضرورية لإنتاج شرائح الذاكرة عالية النطاق الترددي.
تشير التقارير إلى أن الشركات الصينية الرائدة، مثل “كامبريكون تكنولوجيز” و”هواوي”، قد أحرزت بعض التقدم في مجال تصنيع معالجات الذكاء الاصطناعي.
ولتسريع هذه الخطى، تشجع الحكومة الصينية الشركات على الامتناع عن شراء رقائق “إتش 20” من شركة “إنفيديا”، التي صُممت خصيصاً للسوق الصينية كرد على العقوبات الأميركية.
كما تعمل الحكومة الصينية على تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الرقائق من خلال حث المصنعين المحليين على الاعتماد على الشركات المحلية لتوفير المعدات الضرورية، وقد أدى هذا إلى تسجيل شركات مثل “ناورا تكنولوجي جروب” و”أدفانسد مايكرو فابريكيشن” زيادات كبيرة في الإيرادات والأرباح.
وارتفع معدل التوطين في معدات ومكونات الرقائق في الصين بشكل ملحوظ، حيث وصل من 21% في عام 2021 إلى أكثر من 40% بنهاية العام الماضي.
من جانبها، استجابت كوريا الجنوبية وتايوان– اللتان تسيطران حالياً على أسواق الرقائق– لهذه التطورات من خلال تعزيز طاقتهما الإنتاجية المحلية، وخاصة في الفئات العالية الجودة، مع الاحتفاظ بقدرات إنتاجية أقل في الخارج.
أما الولايات المتحدة، فلا تزال بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الرقائق الدقيقة، ومن غير المرجح أن تحققه قريباً، وينطبق ذلك أيضاً على الصين، خاصةً في ما يتعلق بالرقائق الأكثر تقدماً، إلا أن الصين نجحت في تجاوز عقبات كبرى لتعزيز مكانتها في هذه الصناعة.