العولمة تحتضر على فراش الموت، وتتجلى هذه الحقيقة فى الازدراء الذى يُبديه الحزبان الرئيسيان فى الولايات المتحدة للتجارة الحرة.
يفرض هذا الارتداد الرجعى خطرًا أكبر على بقية العالم مقارنة بأمريكا، فبعد الأزمة المالية العالمية فى عام 2008، سَجَّلَ الاقتصاد الأمريكى انتعاشًا ملحوظًا بدءًا من عام 2016.
وفى أعقاب المعركة الانتخابية الشرسة فى ذلك العام بين دونالد ترامب وهيلارى كلينتون، تفوقت الولايات المتحدة على بلدان مجموعة السبع الأخرى فى النمو، والإنتاجية، وعوائد سوق الأوراق المالية.
مقارنة بشركائها، تبدو أمريكا أكثر حيوية وأفضل تجهيزًا ـ بسوقها الداخلية الضخمة التى تضم 340 مليون نسمة ـ لِتَحَمُّل العاصفة التجارية.
تمثل الصادرات 11% فقط من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى، ولكن ما يقرب من 50% من الناتج المحلى الإجمالى الألمانى.
فى حين استحوذت الصين على وظائف المصانع فى تسعينيات القرن العشرين، بفضل قوتها العاملة الضخمة المنخفضة التكلفة، يجد المسئولون التنفيذيون فى مختلف أنحاء الولايات المتحدة الآن أن النظام الخشن المعمول به فى البلاد وارتفاع الأجور شوها سُمعة شِعار «صنع فى الصين».
فى الوقت ذاته، تعمل موارد الطاقة الهائلة فى أمريكا ومراكز الإبداع فى وادى السليكون، وأوستن، ورالى دوراً مهماً على إحياء خيار «صنع فى الولايات المتحدة».
بحلول صيف عام 1944، كان انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية يبدو أقرب إلى اليقين: فقد اجتاحت القوات الأمريكية، والبريطانية، والكندية شواطئ نورماندى، فى حين استعاد أسطول المحيط الهادئ كل الأراضى التى استولت عليها اليابان تقريبا.
ما الهيئة التى سيتخذها العالم إذن بمجرد انقشاع الدخان؟
لقد منحت الولايات المتحدة حلفاءها وأعداءها على حد سواء هدية عظيمة بعد الحرب بتشجيع التجارة الحرة.
فبرغم أن أمريكا كانت تمتلك القوة النارية العسكرية والعضلات التصنيعية اللازمة لتأكيد هيمنتها الإمبراطورية، فإنها اختارت الانفتاح الاقتصادى بدلًا من ذلك.
وعقدت حكومة الولايات المتحدة اجتماعًا لوزراء المالية فى بريتون وودز لابتكار قواعد جديدة للنظام النقدى الدولى وفتحت حدودها على مصراعيها أمام الواردات، ما سمح للمستهلكين الأمريكيين بشراء أجهزة راديو الجيب من سونى، وسيارات فولكس فاجن من طراز بيتل، وغير ذلك الكثير.. بطبيعة الحال، فرضت الولايات المتحدة أيضاً بعض تدابير الحماية. ولكن لماذا اختارت أمريكا هذا الطريق؟.. الإجابة فى كلمتين: الحرب الباردة.
بدأت الحكومة الأمريكية، وعيناها على الصراع القادم، تمارس لعبة الشطرنج الاقتصادية بينما كان السوفييت لا يزالون يحاولون إيجاد طريقة لترتيب القطع على الرقعة.
لقد تحولت الرأسمالية إلى رياضة جماعية، وكان لزامًا على الولايات المتحدة أن تجند مزيدًا من اللاعبين.
كانت هذه السياسية متناقضة بوضوح مع التاريخ الحديث، إذ كان بوسع الولايات المتحدة أن تعود إلى سياسات الحماية التى فرضها قانون سموت ـ هاولى للتعريفات الجمركية فى عام 1930، والذى رفع متوسط الرسوم الجمركية على أكثر من عشرين ألف سلعة بنسبة 60%، لتنخفض بذلك الواردات بمقدار الثلثين.
ولكن بدلًا من ذلك، حدث شىء رائع، فقد نشرت البحرية أكثر من 6700 سفينة لضمان سلامة ممرات الشحن، وولِدَت العولمة من جديد، وبات بوسع البلدان آنذاك التركيز على إنتاج السلع التى تتوافق مع ميزتها النسبية والوصول إلى منتجات لم تكن متاحة محلياً. وسرعان ما شهد الألمان، واليابانيون، وفى وقت لاحق الكوريون الجنوبيون، معجزات اقتصادية.
نتيجة هذا، أصبح العالم ثريًا بدرجة تفوق الوصف، فقد ارتفع الناتج المحلى الإجمالى العالمى من حوالى تريليون دولار فى عام 1960 إلى أكثر من 100 تريليون دولار فى عام 2022، فى حين انخفض الفقر المدقع على مستوى العالم من 54% إلى أقل من 10%، وارتفع متوسط العمر المتوقع من 50 إلى 73 عامًا.
ولكن بعد ثلاثة عقود ونصف من نهاية الحرب الباردة، فَقَدَ «السلام الأمريكى» بريقه، حيث تقلصت القوة البحرية إلى 296 سفينة فقط، وذبلت مدن كانت عظيمة ذات يوم مثل سانت لويس وبالتيمور بعد انتقال الصناعات التحويلية إلى الصين والمكسيك.
وفى نظر الساسة الشعبويين والناخبين المكافحين، تبدو العولمة أشبه بحصان طروادة أكثر من كونها ركيزة للأمن القومى الأمريكى، ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى صعود الصين، التى يُنظر إليها على أنها المستفيد الأكبر من العولمة. لكن نبوءة تَفَوُّق الاقتصاد الصينى على الاقتصاد الأمريكى لم تتحقق.
الواقع أن تكاليف العمالة فى الصين ازدادت بمقدار خمسة أضعاف منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، والآن تواجه الصين انهيارًا ديموغرافيًا أشد حدة من ذلك الذى شهدته الإمبراطورية الرومانية.
من ناحية أخرى، تتمتع أمريكا بصحوة جديدة، فمع تسبب جائحة كوفيد ـ 19 فى الكشف عن هشاشة سلاسل التوريد، تضاعف الإنفاق على البناء الصناعى فى الولايات المتحدة من عام 2020 إلى عام 2022، ومرة أخرى من عام 2022 إلى عام 2024.
وأصبحت فينيكس بولاية أريزونا وكولومبوس بولاية أوهايو مركزين لتصنيع أشباه الموصلات، فى حين بدأت حتى ديترويت تزدهر من جديد.
وأعادت تكاليف الطاقة المنخفضة، بفضل ثورة الصخر الزيتى، والتكنولوجيا الصناعية المتقدمة تشكيل الاقتصاد الأمريكى، وهى النتيجة التى لم يكن ليتوقعها سوى قِلة من الناس فى مطلع القرن.
ظهرت هذه الصحوة أيضًا فى الأسواق المالية، حيث تفوقت الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التى تركز على السلع الرأسمالية على الشركات الأخرى خلال العقد الماضى.
من المفهوم أن يشعر المستثمرون اليوم بالقلق والتوتر، فى ظل المخاوف من الركود، والأسواق المتقلبة، وتحديات السيولة، والحروب فى أوكرانيا والشرق الأوسط.ولكن مع توالى فصول القصة الاقتصادية فى القرن الحادى والعشرين، نجد أن أمريكا لا تسرق الاستعراض فحسب؛ بل إنها تكتب السيناريو.. وربما ينتظرنا أداء مذهل.