التجارة المرتبطة بسياسات ترامب بدأت بالفعل تأخذ مجراها.
فمع وضوح نتائج الانتخابات الأمريكية التي جاءت بفوز دونالد ترامب بالرئاسة، شهدت الأسهم الأمريكية ارتفاعاً ملحوظاً، وصعدت قيمة الدولار، وقفزت عوائد سندات الخزانة.
تعكس هذه التحركات في الأسعار رسالتين حول التوجه الاقتصادي لترامب، فمن جهة، يُعد وعده بتخفيضات ضريبية كبيرة، إلى جانب حماسه نحو إزالة القيود، دافعاً للنمو، وخاصة على المدى القصير.
ولكن، من جهة أخرى، قد تؤدي التعريفات الجمركية والتشدد في الهجرة إلى زيادة التضخم وتضعف على المدى الطويل نقاط القوة الاقتصادية لأمريكا.
من الصعب تقدير التأثير المحتمل لسياسات ترامب، إذ تظل هناك شكوك حول مدى جديته في تنفيذ كل ما يصرح به، حسب ما ذكرته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
فهو، على سبيل المثال، يميل بوضوح إلى فرض تعريفات جمركية، لكنه قد يعتبرها أحياناً وسيلة ضغط على الدول الأخرى بدلاً من كونها أهدافاً بحد ذاتها.
كذلك، هناك عدم يقين بشأن مدى قدرته على تحقيق أجندته.
لقد تطور فريق ترامب منذ فترته الرئاسية الأولى إلى كيان أكثر تنظيماً، كما أن الجمهوريين على وشك تحقيق السيطرة الكاملة، حيث أن فوز ترامب الكبير قد يصحبه أغلبية قوية في مجلس الشيوخ وأغلبية ضيقة في مجلس النواب.
ومع ذلك، سيظل للمعتدلين في الحزب تأثير في تقليص بعض أجنداته.
يمكن تقسيم البرنامج الاقتصادي لترامب إلى ثلاثة محاور رئيسية، ألا وهي خفض الضرائب، وإزالة القيود بشكل واسع، وفرض تعريفات جمركية مرتفعة.
إضافة إلى ذلك، فإن سياسته الأوسع نطاقاً المتعلقة بالتشدد في الهجرة قد تترك أثراً عميقاً على الاقتصاد.
لنبدأ من تخفيضات الضرائب، وهو المصدر الأكبر للحماس الفوري بين المستثمرين والمديرين التنفيذيين للشركات، حيث إن وعود ترامب بخفض الضرائب، بجانب إنهاء شبح زياداتها، تثير الكثير من التوقعات الإيجابية.
كانت كامالا هاريس قد دعت لرفع معدل ضريبة الشركات من 21% إلى 28% وفرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية غير المحققة.
وبفوز ترامب، أصبحت هذه الاقتراحات خارج الحسبان، الأمر الذي أسعد الكثيرين في وول ستريت.
وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يفتح فوز الجمهوريين الطريق أمام ترامب لتخفيض الضرائب، حيث سيعطي الأولوية لتمديد التخفيضات في ضريبة الدخل الشخصي التي قام بها عام 2017، والتي ستنتهي بنهاية العام القادم.
وتحدث ترامب عن تخفيض معدل ضريبة الشركات ربما إلى 15%، وأثار أيضاً احتمال إنهاء ضرائب على الإكراميات.
التوقعات بتحقيق أرباح أعلى بعد الضرائب للشركات تفسر سبب ارتفاع الأسهم عندما تأكد فوز ترامب، حيث قفز مؤشر “إس آند بي 500″ للشركات الأمريكية الكبرى بنسبة 2.5% محققاً مستوى قياسي.
لكن، قد لا تكون تخفيضات الضرائب الهائلة ضربة مضمونة النجاح.
هناك قلق أساسي يتمثل في أن التخفيضات الضريبية قد تضع ضغطاً على الميزانية الأمريكية.
ووفقاً لمكتب الميزانية في الكونجرس، فإن أمريكا ستسجل عجزاً في الميزانية يبلغ نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد القادم، وهو مستوى مرتفع جداً في الظروف العادية.
ويمكن أن تصل تخفيضات ترامب الضريبية المختلفة إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، وفقاً للجنة المسؤولة عن الميزانية الفيدرالية.
التخوف من العجز المتزايد قد يكون عاملاً في تحديد مدى استعداد الجمهوريين في الكونجرس للمضي قدماً في تخفيضات الضرائب، خاصةً مع بدء المفاوضات مطلع العام المقبل.
ويعتمد الأمر أيضاً على رد فعل الأسواق، حيث أن ارتفاع عوائد سندات الخزانة بعد فوز ترامب يمثل تحذيراً حول هشاشة الوضع المالي الأمريكي.
وفي ظل الانتعاش بعد الانتخابات، ارتفعت العوائد على سندات الخزانة لأجل عشرة أعوام بمقدار أربعة أخماس نقطة مئوية منذ منتصف سبتمبر، وهي حركة كبيرة في أسواق السندات، مما قد يهدد انتعاش سوق الأسهم إذا استمرت كلفة الاقتراض المرتفعة لفترة طويلة.
في حين أن مفاوضات الضرائب ستستمر طوال عام 2025، سيبدأ ترامب فوراً العمل على إزالة القيود عند عودته للبيت الأبيض، فقد وعد في تجمعاته الانتخابية بـ”أكثر حملة تخفيض للقيود التنظيمية شراسة في تاريخ أمريكا”.
وقد يطلب من إيلون ماسك، رئيس “تسلا” الذي أصبح رفيقه في الحملة، قيادة “لجنة كفاءة الحكومة” التي تعمل على إلغاء عشرة قوانين قائمة مقابل كل قانون جديد.
لكن الشركات متحمسة أكثر للتغيرات في اللوائح التي أعدها الديمقراطيون، حيث كانت كامالا هاريس تعتزم الاستمرار في الجهود التي بدأها جو بايدن لفرض رقابة صارمة على الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مطالبة الشركات بمشاركة معلومات حول نماذجها.
ومن المتوقع أن يتراجع ترامب عن ذلك.
وبالمثل، كان من المتوقع أن تتبنى إدارة بايدن نهجاً أكثر صرامة تجاه شركات العملات الرقمية عبر فرض قواعد الشفافية والإفصاح، بينما يخطط ترامب لجعل أمريكا “عاصمة العملات الرقمية في العالم”.
هل يمكن أن تكون الشركات الكبيرة جميلة؟
بشكل عام، من المؤكد تقريباً أن حملة مكافحة الاحتكار التي أطلقها بايدن، والتي كانت تستهدف الشركات الكبيرة ، ستتراجع.
وفقاً لروبرت أتكينسون من مؤسسة “مؤسسة التكنولوجيا والابتكار”، فإن “ردة الفعل العنيفة على التكنولوجيا وصلت إلى ذروتها، ومن غير المتوقع أن تستمر تحت إدارة ترامب”.
إضافة إلى الحرية التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا الكبرى، سيشرف ترامب على إعادة تنظيم المشهد التنظيمي، حيث تعهد بمنح شركات الطاقة حرية أكبر في التنقيب عن البترول على الأراضي الفيدرالية، ومن المرجح أن يرفع حظر تصدير الغاز الطبيعي المسال.
وقد يؤدي توليه لولاية ثانية إلى تخفيف متطلبات الإفصاح التي فُرضت على البنوك بعد الأزمة المالية العالمية.
في نفس الوقت، قد يسعى ترامب لإلغاء بعض اللوائح والدعم التي فرضتها إدارة بايدن لتعزيز استخدام الطاقة المتجددة في أمريكا.
ستكون التعريفات الجمركية أكثر سياسات ترامب إثارة للجدل، خاصة في العواصم الأجنبية.
طوال ما يقارب العقد، ظل ترامب يؤمن بأن الحماية التجارية ضرورية لازدهار أمريكا.
وقد تميزت ولايته الأولى بفرض تعريفات على الصلب المستورد من جميع أنحاء العالم وعلى مجموعة متنوعة من المنتجات الصينية، والتي قد تكون مجرد مقدمة لما سيسعى لتحقيقه الآن.
وقد تحدث عن فرض ضرائب تتراوح بين 10% إلى 20% على كل ما تستورده أمريكا، و60% على جميع السلع القادمة من الصين، ورسوم أعلى قد تصل إلى 500% على السيارات المستوردة من المكسيك.
يتفق الاقتصاديون على أن هذه التعريفات الباهظة ستؤدي إلى رفع الأسعار للمستهلكين وتعمل كعائق أمام الاستثمار والنمو.
وهذه مفارقة قاسية قد تواجه الناخبين الأمريكيين، خاصةً أن غضبهم من التضخم في عهد بايدن ساهم في دعم إعادة انتخاب ترامب.
كما أن العديد من الجمهوريين في الكونجرس لا يتحمسون لسياسات التعريفات الجمركية، حيث ما يزال هناك تيار يدعم التجارة الحرة، وإن كان ضعيفاً داخل الحزب.
لكن، قد لا يكون لهذا المعارضة تأثير كبير، إذ إن مستشاري ترامب، لا سيما روبرت لايتهايزر، الذي شغل منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة في ولايته الأولى، يعملون على إعداد خطط لاستخدام الأوامر التنفيذية وصلاحيات الطوارئ التي لم تُختبر سابقاً لفرض تعريفات جمركية شاملة.
ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت تلك الصلاحيات ستعمل كما يأملون.
ومن المؤكد أن الشركات ستطعن في التعريفات أمام المحاكم وقد تنجح في إلغائها، لذا، قد يبدأ ترامب بفرض تعريفات أصغر وأكثر تحديداً قبل أن يسعى إلى فرض رسوم شاملة.
وسيكون من السهل على البيت الأبيض فرض تعريفات جديدة على الصين كإجراءات عقابية بناءً على نتائج التحقيقات السابقة في ممارساتها التجارية.
ومن المؤكد أن التعريفات ستدعو أيضاً إلى ردود فعل انتقامية، فقد أعد المسؤولون في أوروبا قوائم بضرائب قد يتم فرضها على السلع الأمريكية.
ومن المحتمل أن تستهدف الصين المنتجات الزراعية، مثل فول الصويا والذرة.
وستميل دول أخرى إلى اتباع هذا النهج، لكنها ستسعى أيضاً للحصول على إعفاءات من تعريفات ترامب، خاصة كندا والمكسيك اللتين يرتبط اقتصادهما بشكل وثيق بالتجارة مع أمريكا.
فقد انخفض البيزو المكسيكي إلى أدنى مستوى له منذ عامين في اليوم التالي للانتخابات، قبل أن يستعيد جزءاً من خسائره، وذلك وسط مخاوف من أن تعريفات ترامب قد تتسبب في مشاكل للاقتصاد المكسيكي.
وبالنظر إلى حجم وتنوع الاقتصاد الأمريكي، قد تكون أمريكا أكثر تحصيناً من غيرها من حرب تجارية عالمية.
هذا، إلى جانب ارتفاع عوائد سندات الخزانة، يسهم في تفسير ارتفاع قيمة الدولار بعد فوز ترامب، لكن الخطر الحقيقي الذي يواجه العالم يكمن في ضعف النمو، وارتفاع الأسعار، وزيادة هشاشة سلاسل التوريد.
خطة ترامب لـ”إصلاح” حدود أمريكا تمثل مصدر قلق آخر.
فإذا نفذ وعده بترحيل جماعي للمهاجرين، فإن ذلك سيشكل عبئاً هائلاً على الاقتصاد من خلال تقليص القوى العاملة، إذ سيؤدي ترحيل 8 ملايين مهاجر إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 7% مقارنةً بالتوقعات الأساسية بحلول عام 2028، وفقاً لتقديرات معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
ولكن، من غير المرجح أن يصل العدد الفعلي لهذا الحد، فأي محاولة لترحيل الملايين ستواجه مقاومة شديدة، إذ أن المسؤولين المحليين في بعض أكبر الولايات الأمريكية، من كاليفورنيا إلى نيويورك، سيرفضون التعاون.
ربما تكون النتيجة الأكثر واقعية هي فرض ضوابط أكثر صرامة على الحدود، ما من شأنه أن يحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين الذي شهدناه في عهد بايدن.
وقد يترجم ذلك إلى نقص في اليد العاملة في المطاعم وشركات البناء وغيرها، مما يضيف قوة تضخمية أخرى.
وقد يؤدي نهج ترامب تجاه الهجرة القانونية إلى تفاقم المشكلة أو تحسينها، إذ أنه في ولايته الأولى قلل من إصدار البطاقات الخضراء، لكنه في حملته أشار إلى أنه قد يفكر في تسهيل قواعد الهجرة للطلاب الأجانب.