يرتبط نجاح أي خطوة تنموية أو برامج الإصلاح الاقتصادي أو السياسي، بإصلاح الجهاز الإداري المسئول عن تنفيذها ورفع كفاءتها، فكلما كان الهيكل الإداري الحكومي كفء كانت البرامج والسياسات الحكومية أكثر فاعلية ونجاحاً.
وفاعلية السياسات الحكومية ونجاحها يرتبط أيضاً حول مدى رضاء المواطن عند تلقيه الخدمات الحكومية، فتقديم الخدمة للمواطنين هو سبب وجود الموظفين والوظيفة ذاتها، وهي عقيدة يجب أن تغرز فيمن يتقدم لشغل وظيفة عامة، من خلال القانون والتدريب والمسائلة الفورية.
ولعل أحد أسباب ضعف وانخفاض كفاءة الجهاز الإداري الحكومي في مصر، هو انقطاع عمليات الإصلاح الإداري والتي تتسم في الأصل بالديناميكية والاستمرارية، فعلى الرغم من محاولات تحسين وهيكلة الجهاز الإداري الحكومي في الخمسينات والستينات والسبعينات، إلا أنها لم تكن محاولات ذات رؤية موحدة متصلة، فضلاً عن أنها اقتصرت على إعادة توزيع الاختصاصات بين الإدارات المختلفة، وإنشاء عدد من الهيئات مثل معهد الإدارة العامة، والمعهد القومي للإدارة العليا، والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة؛ مما زاد من وهن وترهل الجهاز الإداري.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: تسمين الشركات الناشئة
وفي عام 2004؛ شهدت مصر تجربة رائدة ومتميزة في مجال الإصلاح الإداري، حيث تم إنشاء وزارة التنمية الإدارية، وصدر القرار الجمهوري رقم 323 لسنة 2004 بتحديد اختصاصات وزير الدولة للتنمية الإدارية، والتي ترجمها الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية آنذاك إلى خطة عمل ثلاثية المحاور انقسمت إلى محور الحكومة الإلكترونية، والذى قفز بمؤشر مصر الدولي في الخدمات الإلكترونية لتصل إلى المركز 23 من 192 دولة عام 2010، ومحور التطوير المؤسسي وما نتج عنه من إصدار بطاقات الرقم القومي الحديثة، وبطاقات الدعم التمويني، والعمل على ربط بيانات المواطنين من خلال شبكة معلومات مركزية، وأخيراً محور الحوكمة الرشيدة بما تشمله من إفصاح وتداول للمعلومات، والتي شملت إنشاء لجنة الشفافية والنزاهة التي قامت بإصدار أربعة تقارير رسمية في غاية الأهمية حول الفساد وهياكله ونسبه وحجمه وكيفية معالجته.
إن أحد أهم نجاح تجربة وزارة التنمية الإدارية في الفترة من 2004 وحتى 2011، إلا أن تم إلغائها عام 2018، هي تحديد خطة ورؤية الوزارة بشكل علمي للإجابة على الأسئلة البديهية، ما هي المشكلة؟ تضخم الهيكل الإداري الحكومي، وانتشار الفساد داخله، وسوء تقديم الخدمة للمواطنين، وإهدار موارد الدولة المادية والبشرية، وما هي الأهداف؟ رفع الإنتاجية وترشيد الإنفاق وتحسين تنفيذ السياسات العامة وتعزيز مفهوم المسائلة والمسئولية، وتقديم أفضل خدمة للمواطنين، وما هي المتطلبات؟ الإرادة، ووضوح الأهداف والشفافية والإفصاح وإتاحة المعلومات، وأخيراً المعوقات وهي جماعات المصالح من الموظفين المرتبطين بالإشراف الإداري والذين يتوغلون في هياكل الدولة الإدارية وصولاً إلى مستويات إدارية عليا يستطيعون من خلالها عرقلة وإفشال أية محاولات إصلاح إداري.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: المشروع القومى للتنمية البشرية “البداية”
وعلى الرغم من استمرار جهود الحكومات المتعاقبة في تحسين الجهاز الإداري الحكومي، ومن بينهم الدكتور أشرف العربي والذي تولي وزارة الإصلاح الإداري إلى جانب وزارة التخطيط عام 2014، حيث قام بإعداد رؤية للإصلاح الإداري في مصر وكانت شاملة ومتميزة، ولكن لم يتاح الوقت لتنفيذها.
ثم تقلصت الوزارة إلى لجنة عليا للإصلاح الإداري، واقتصرت محاولات الإصلاح الإداري على تعديلات أطر المحاسبة والمسائلة، من خلال تعديلات تشريعية على قواعد التعيين والتحقيق والجزاءات في الوظائف العامة مثل إصدار قانون الخدمة المدنية عام 2016، وقانون التعاقدات الحكومية عام 2018، إلى جانب بعض المبادرات مثل إطلاق مؤشرات قياس الأداء الحكومي وجائزة التميز الحكومي، وبرامج التدريب والتعليم بالتعاون مع جامعة أسلكسا، بالإضافة إلى جهود رقمنة الخدمات الحكومية.
وهذه إجراءات وخطوات في محلها وضرورية؛ إلا أنها تفتقر إلى الرؤية الشاملة للإصلاح الإداري، ففي مقابل تلك السياسات والإجراءات كان بُنيان الهيكل الإداري الحكومي في تزايد، نتيجة اعتياد الحكومات المتعاقبة على تحقيق برامجها وسياساتها من خلال تجاوز الهيكل الإداري الموجود، وإنشاء هيئة أو جهاز أو مجلس جديد ليأخذ جزءًا من صلاحيات الهيكل الإداري الموجود، مما أحدث تضخم وتضارب في الصلاحيات وحق الولاية وهو ما تسبب في وهن الهيكل الإداري وتعقيده أكثر مما هو عليه.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: دعوة لهيكلة منظومة الدعم حتى لا نُورث الفقر
وقد كان الأجدر من ذلك؛ إصلاح ورفع كفاءة الهيكل الإداري الموجود، والذي بات يتشكل من 33 وزارة، و63 هيئة اقتصادية، و107 هيئات خدمية، و27 محافظة، و2449 كيان إداري، إلى جانب هيكل العمالة بالجهاز الإداري للدولة، التي يبلغ عددها نحو 4 ملايين و276 ألف موظف تقريباً، بالمجموعات الوظيفية المختلفة، موزعين على الجهاز الإداري والهيئات العامة والجامعات ووحدات الإدارة المحلي.
وعلى الرغم من ضخامة حجم الهيكل الإداري، إلا أنه لا يعكس جودة في تقديم الخدمات ولا فاعلية في تحقيق السياسات الحكومية، فضلاً عن ما يتسبب به من إحباط محاولات جذب الاستثمارات الأجنبية وتنمية الاستثمارات المحلية وتوسعها.
وفي يوليو من العام الجاري؛ كُلف الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، إلى جانب رئاسة الوزراء، بأعمال وزير شئون الإصلاح الإداري، وهو تعبير أكثر دقة من التنمية الإدارية، ويعبر عن إدراكنا بوجود مشكلة في الجهاز الإداري الحكومي، إلا أن ملف الإصلاح الإداري والمتقاطع مع كافة ملفات الحكومة خاصة المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاستثمار، يحتاج إلى تفرغ أكثر من أن يكون ملف إضافي على مائدة رئيس الوزراء المُثقل بالملفات المتعددة والمتنوعة.
نحن بحاجة إلى إطلاق استراتيجية تشتمل على خطة عمل محددة زمنياً، ومقسمة لمحاور تشريعية وتنفيذية وسياسية للإسراع في خطوات جادة نحو الإصلاح الإداري وتنفيذها، تهدف إلى وضع رؤية لحوكمة الجهاز الإداري وتقليص حجمه ورفع كفاءته وجودة خدماته، مع ضرورة توحيد جهة الولاية والقضاء على التعددية والتداخل الحالي، والتوسع في رقمنة الخدمات الحكومية وربطها عبر شبكة معلومات مركزية مرتبطة بكافة أجهزة الحكومة، وتطبيق اقتصاديات التشغيل، وإسناد القطاع الخاص دوراً في تأدية بعض الخدمات الحكومية، مع ضرورة التحضير لخطة جماعية وشاملة لتطبيق اللامركزية تدريجياً خاصة في ظل التنمية العمرانية والتوسع الحاصل في كافة المحافظات والمدن والذي يفرض علينا أن نخطو نحو تطبيق اللامركزية.