ترامب يتمتع بمهارات استثنائية تمكنه من إقناع مؤيديه بأنه يتخذ خطوات حاسمة حتى لو لم يفعل شيئاً
أمضى الرئيس الأمريكى المنتخب حديثاً دونالد ترامب الأشهر القليلة الماضية فى تصوير الاقتصاد الأمريكى كأنه كارثة ملحمية تستدعى تحركاً جذرياً.
وقد أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها سياسياً، لكنَّها وضعت ترامب أمام تحدى الوفاء بوعود جريئة لإصلاح الاقتصاد، فى وقت قد يكون فيه عدم التدخل هو الخيار الأفضل.
فى الواقع، الاقتصاد الأمريكى ليس كارثة، بل هو محط أنظار العالم حالياً، خاصة أن معدل البطالة منخفض، والتضخم فى تراجع، والأجور الحقيقية تشهد ارتفاعاً، والإنتاجية فى حالة نمو مستمر.
لكنَّ أغلب الناخبين الأمريكيين يشعرون بعدم الرضا؛ نظراً إلى تداعيات موجة التضخم التى اجتاحت البلاد خلال عامى 2021 و2022، وركود سوق الإسكان، وتباطؤ التوظيف، والاستقطاب الحزبى، وقلة الوعى بالإحصائيات الاقتصادية العالمية.
من المتوقع أن تتلاشى الذكريات المتعلقة بموجة التضخم بمرور الوقت، ولن يُلام ترامب عليها بأى حال.
كما أن تخفيضات أسعار الفائدة التى يتبعها مجلس الاحتياطى الفيدرالى ستسهم فى استعادة زخم مبيعات المنازل والتوظيف. وقد يكون الزمن وحده كفيلاً بتحقيق التحسن المطلوب.
أهمية الاستقرار السياسى والاقتصادى
هناك حجة أخرى تدعم سياسة «الأقل هو الأكثر»؛ حيث يُعد الاستقرار السياسى، والقدرة على التنبؤ بالسياسات عاملين داعمين للاقتصاد.
ولهذا السبب، تميل وول ستريت إلى تفضيل الجمود الحزبى فى واشنطن، كما أن سيادة القانون تعزز النمو الاقتصادى.
فى عام 2016، خبراء الاقتصاد سكوت بيكر، ونيكولاس بلوم، وستيفن جيه ديفيس، وربما يكون الأخيران مألوفين للقراء؛ بسبب أبحاثهما التى يُستشهد بها كثيراً حول ثورة العمل من المنزل التى أطلقها الوباء، طوروا مؤشراً يقيس انعدام اليقين فى السياسات الاقتصادية استناداً إلى التغطية الإعلامية، ووجدوا أن عدم اليقين السياسى يرتبط بزيادة تقلب أسعار الأسهم، وانخفاض الاستثمار والعمالة فى القطاعات الحساسة للسياسات مثل الدفاع والرعاية الصحية والتمويل والبنية التحتية.
وعلى المستوى الكلى، فإنَّ تزايد عدم اليقين السياسى ينذر بانخفاض الاستثمار والإنتاج والعمالة. أُضيفت لاحقاً بيانات جديدة للمؤشر شملت معلومات عن أحكام الضرائب المنتهية الصلاحية وتباين توقعات الاقتصاديين.
وأظهر المؤشر ارتفاعاً ملحوظاً فى حالة عدم اليقين فى بداية جائحة كوفيد ـ 19، قبل أن يشهد اتجاهاً هبوطياً منذ ذلك الحين.
دروس من عهد كلينتون
توفر تجربة الرئيس بيل كلينتون، خاصة فى الثلاثة أرباع الأخيرة من ولايته، درساً تاريخياً مهماً حول فوائد الحد من عدم اليقين السياسى.
فبعد فشل محاولته لإصلاح نظام الرعاية الصحية الشامل، ونتائج انتخابات 1994 التى منحت الجمهوريين السيطرة على الكونجرس لأول مرة منذ 42 عاماً، اضطر كلينتون إلى تقليص طموحاته فى السياسات الداخلية.
لكن هذا التراجع أثمر عن طفرة اقتصادية، وحقق أعلى معدلات تأييد لرئيس فى ولايته الثانية «وفقاً للسجلات التى بدأت من عهد هارى ترومان».
كان أحد أسباب هذا الازدهار ارتفاع الإنتاجية التى حفزتها الابتكارات التكنولوجية فى «سيليكون فالى».
ومع التطورات الأخيرة فى مجال الذكاء الاصطناعى، قد يكون تحقيق طفرة اقتصادية مشابهة أمراً محتملاً فى الأعوام المقبلة.
الاستقرار الاقتصادى فى عهد ترامب
يستعد ترامب لبدء ولايته الثانية مع عوامل عدة تسهم تلقائياً فى تقليل حالة عدم اليقين الاقتصادى. فالأزمات المرتبطة بسقف الديون، التى كانت سبباً فى زيادات متكررة بمؤشر انعدام اليقين فى السياسات الاقتصادية خلال العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، غالباً ما تحدث مع رئيس ديمقراطى ومجلس نواب يسيطر عليه الجمهوريون.
لذلك، فإنَّ احتمال وقوع مثل هذه الأزمات يبدو ضئيلاً، حتى لو تمكن الديمقراطيون من الحصول على أغلبية فى مجلس النواب.
إضافة إلى ذلك، يميل الجمهوريون إلى تعليق اللوائح التنظيمية، بغض النظر عن عواقبه على المدى الطويل، وهو ما يُعد عاملاً مثبطاً لحالة عدم اليقين على المدى القصير.
وفى ظل انتخاب ترامب وترجيح حصول الجمهوريين على أغلبية فى الكونجرس، يبدو أن الناخبين يضمنون تمديد العمل بأحكام قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017، الذى كان من المفترض أن تنتهى صلاحيته العام المقبل.
التحديات أمام ترامب
أدرك أن فرص التزام ترامب بسياسة عدم التدخل ضئيلة للغاية، إن لم تكن معدومة. فالرؤساء يسعون عموماً للوفاء بوعودهم الانتخابية، وترامب بدوره وعد بترحيل جماعى للمهاجرين، وزيادات حادة فى الرسوم الجمركية، وحزمة تخفيضات ضريبية، وتحدى استقلالية مجلس الاحتياطى الفيدرالى.
هذه السياسات مجتمعة قد تؤدى على الأرجح إلى تباطؤ النمو الاقتصادى مع تفاقم التضخم والعجز المالى وانعدام اليقين الاقتصادى.
ويبدو أن فوز ترامب فى الانتخابات قد يُصعب مضى مجلس الاحتياطى الفيدرالى قدماً فى سياسات خفض أسعار الفائدة.
مع ذلك، يبقى الوضع الاقتصادى الحالى مواتياً بشكل يكفى لاستمرار النمو الاقتصادى رغم كل هذه التدخلات.
لا أتوقع حدوث كارثة، وأتفهم أهمية ظهور الرئيس وكأنه يتخذ إجراءات لتحسين الأوضاع، خاصة فى ظل استياء الناخبين من الأوضاع الاقتصادية.
لكن ترامب يتمتع بمهارات استثنائية فى التواصل، تمكنه من إقناع مؤيديه بأنه يتخذ خطوات حاسمة، حتى لو لم يفعل شيئاً على الإطلاق.
وفى المرحلة الحالية، قد يكون هذا النهج هو الأنسب للسياسة الاقتصادية.
بقلم: جاستن فوكس، كاتب عمود لدى وكالة أنباء «بلومبرج»
المصدر: وكالة أنباء «بلومبرج»