يبدو أن رؤساء الشركات الألمانية يعيشون أوقاتًا عصيبة، فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل ثلاثة أعوام تقريباً، باتت هذه الشركات تواجه تحديات معقدة، أبرزها ارتفاع أسعار الطاقة، وتباطؤ الطلب في الأسواق الصينية، واحتدام المنافسة، بالإضافة إلى أزمات داخلية مع العمال، فضلاً عن التعامل مع حكومة تعاني من ضعف في الكفاءة (رغم احتمالية تغييرها قريباً).
ولم تحقق أسهم الشركات الألمانية سوى ارتفاع طفيف بنسبة 2% منذ بداية عام 2022، مقارنة بزيادة قدرها 16% في أسواق الدول الغنية بشكل عام.
ومع تصاعد الأحاديث المتعلقة بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تتنامى المخاوف بين الأوساط الاقتصادية الألمانية، وفقاً لتقرير نشرته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
تواجه الشركات الألمانية تهديدات كبيرة، خاصة أن الولايات المتحدة تمثل أكبر سوق تصديرية لها.
ففي العام الماضي، بلغت قيمة الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة حوالي 160 مليار دولار، في حين بلغت قيمة الواردات من الولايات المتحدة 77 مليار دولار.
وليس هناك دولة تتمتع بفوائض تجارية أكبر مع الولايات المتحدة سوى الصين والمكسيك وفيتنام، مما يجعل الشركات الألمانية هدفاً مباشراً لأي سياسات حمائية قد يتبناها ترامب.
بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة، أصدر اتحاد الصناعات الألماني تحذيراً من أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تؤدي إلى “تصعيد النبرة واستمرار النهج الحمائي”.
“إيفو” يتوقع انخفاض صادرات ألمانيا إلى أمريكا حال فرض التعريفات الجمركية
وفي السياق ذاته، توقع معهد “إيفو” للأبحاث الاقتصادية في ميونيخ أن تنخفض صادرات ألمانيا إلى الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 15%، إذا ما التزم ترامب بتنفيذ وعوده بفرض تعريفات جمركية تتراوح بين 10% و20% على جميع الواردات.
ربما يجد رؤساء الشركات في ألمانيا بعض العزاء في ثلاثة أمور، الأمر الأول أن ترامب معروف بمبالغاته، وغالباً ما لا تتحقق العديد من وعوده.
يقول مايكل هوثر، رئيس المعهد الاقتصادي الألماني في كولونيا: “لا أحد يعلم ما الذي قد تحمله حقيبة المفاجآت التي يمثلها ترامب”.
ففي عام 2018، فرض ترامب تعريفات جمركية على الصلب والألمنيوم الأوروبي، لكنه لم يتخذ خطوات نحو حرب تجارية شاملة مع أوروبا.
أما تهديده السابق بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على السيارات الأوروبية، فلم يُنفّذ خلال ولايته الأولى.
حدة تأثير التعريفات الجمركية على ألمانيا قد تكون أقل مقارنة بالصين
من ناحية أخرى، قد تكون حدة تأثير التعريفات الجمركية على ألمانيا أقل مقارنة بالصين، التي من المتوقع أن تكون المتضرر الأكبر، فقد أشار ترامب إلى نيته فرض ضريبة بنسبة 60% على الواردات الصينية التي تنافس المنتجات الألمانية في قطاعات تشمل الأجهزة الكهربائية والآلات الثقيلة.
وعلاوة على ذلك، من المرجح أن تصبح السلع الألمانية أكثر جاذبية للمستهلكين الأمريكيين مع ارتفاع قيمة الدولار، وهذا التحول متوقع نتيجة لسياسات ترامب، مثل التعريفات الجمركية والتخفيضات الضريبية، التي قد تؤدي إلى زيادة معدلات التضخم والحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة.
ربما يكمن أبرز جوانب الطمأنينة لبعض الشركات الألمانية في الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها لتصنيع المزيد من منتجاتها داخل الولايات المتحدة.
فقد جذبت الولايات المتحدة، بفضل تكاليف الطاقة المنخفضة نسبياً والحوافز السخية التي يقدمها “قانون الحد من التضخم”، استثمارات ألمانية بلغت حوالي 16 مليار دولار في العام الماضي.
هذا الرقم يعادل تقريباً ضعف استثمارات العام السابق، ويتجاوز بكثير مبلغ 6 مليارات دولار التي تعهدت بها الشركات الألمانية للصين، وفقاً لبيانات صادرة عن “إف دي آي إنتليجنس”.
في عام 2023، شكلت الاستثمارات الألمانية في الولايات المتحدة حوالي 15% من إجمالي استثماراتها الخارجية، مقارنة بـ6% فقط في العام الذي سبقه.
وفي سياق حملته الانتخابية، أعلن ترامب قائلاً: “أريد أن تتحول شركات السيارات الألمانية إلى شركات أمريكية. أريدها أن تبني مصانعها هنا”.
في الواقع، استجابت شركات السيارات الألمانية لهذا التوجه بالفعل، حيث أنتجت العام الماضي حوالي 900 ألف سيارة داخل الولايات المتحدة، تم تصدير نحو نصفها إلى الخارج، وفقاً لجمعية صناعة السيارات الألمانية.
هذا الرقم يتجاوز بأكثر من ضعف عدد السيارات التي تصدرها ألمانيا إلى الولايات المتحدة، والتي تبلغ حوالي 400 ألف سيارة سنوياً.
تعد شركة “بي إم دبليو” نموذجاً بارزاً لهذا الاستثمار، حيث توظف حوالي 11 ألف شخص في مصنعها الضخم بسبارتنبورج، بولاية كارولاينا الجنوبية، والذي يُعد واحداً من أكبر مصانعها.
كذلك، توظف “مرسيدس-بنز” حوالي 6,100 عامل في مصنعها الواقع بتوسكالوسا بولاية ألاباما، بينما تشغل “فولكس واجن” حوالي 5,500 موظف في مصنعها بتشاتانوجا، بولاية تينيسي.
قد تكون إعادة تهيئة المصانع الأمريكية لاستبدال النماذج المستوردة التي قد تُفرض عليها تعريفات جمركية خطوة مكلفة، لكنها قد تساعد في التخفيف من الأضرار الاقتصادية، على الرغم من أنها لن تعود بالنفع على العمال في ألمانيا أو المكسيك، حيث تمتلك بعض شركات السيارات الألمانية مصانع أخرى.
بعد الانتخابات، صرح أوليفر زيبسه، الرئيس التنفيذي لشركة “بي إم دبليو”، بأن التعريفات الأمريكية قد تمنح شركته ميزة تنافسية على المنافسين، نظراً لوجودها القوي في السوق الأمريكية.
أما الشركات الألمانية الصغيرة، التي تُعرف باسم “ميدلشتاند”، فهي تواجه تحديات أكبر، حيث تفتقر غالباً إلى الموارد اللازمة لإنشاء مصانع في الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، تصدر صناعة الآلات الألمانية حوالي 14% من إنتاجها إلى الولايات المتحدة، وفقاً لما قاله كارل هيوسجن، رئيس شركة “هاوي” للمضخات الهيدروليكية والرئيس السابق لاتحاد مصنعي الآلات.
لكن نحو 90% من الشركات الأعضاء في هذا الاتحاد توظف أقل من 250 شخصاً، مما يجعلها أقل قدرة على التكيف مع السياسات الحمائية المحتملة.
في النهاية، ورغم أن قلق رؤساء الشركات الألمانية من عودة ترامب مبرر، فإن تأثير هذه العودة سيختلف بشكل كبير بين الشركات بناءً على حجمها واستثماراتها.