في الوقت الذي تتصارع فيه العديد من الاقتصادات المتقدمة مع التحديات الهيكلية والاقتصادية، تسير الولايات المتحدة بخطى ثابتة نحو تعزيز مكانتها الاقتصادية العالمية، مسجلة نمواً أسرع بكثير من أي دولة متقدمة أخرى.
منذ نهاية عام 2019، توسع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 11.4%، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 2.8% هذا العام، وهو معدل يثير حسد العديد من الدول المتقدمة.
نمو إنتاجية العمل
رغم التأثير السلبي للحرب في أوكرانيا على أوروبا، واستجابة اقتصادات مجموعة السبع لجائحة كوفيد- 19، تُظهر الولايات المتحدة تفوقاً يعود بشكل رئيس إلى نمو إنتاجية العمل، حسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
منذ الأزمة المالية العالمية في 2008-2009، نمت إنتاجية العمل في الولايات المتحدة بنسبة 30%، أي أكثر من ثلاثة أضعاف النمو المسجل في منطقة اليورو والمملكة المتحدة.
هذا الفارق في الإنتاجية، الذي أصبح واضحاً خلال العقد الماضي، يعيد تشكيل التسلسل الهرمي للاقتصاد العالمي.
الاستثمار في البحث والتطوير
إحدى النقاط الرئيسة التي تسلط الضوء على تفوق الاقتصاد الأمريكي هي استثماراته الضخمة في البحث والتطوير، خاصة في القطاعات التي تشهد نمواً سريعاً مثل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
على الصعيد العالمي، أصبحت الشركات الأمريكية هي المهيمنة على الإنفاق في البحث والتطوير، متجاوزة صناعات مثل الأدوية وصناعة السيارات، بينما تظل الاقتصادات الأخرى متأخرة في هذا المجال.
تُظهر بيانات حديثة أن الولايات المتحدة تستحوذ على 83% من إجمالي التمويل الاستثماري المخصص لدول مجموعة السبع خلال العقد الماضي.
علاوة على ذلك، في الأشهر العشرة الأولى من عام 2024، جذبت الولايات المتحدة 14.6% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالمياً، وهو مستوى قياسي.
في المقابل، سجلت ألمانيا أدنى مستوى لها في الاستثمارات الأجنبية المباشرة منذ 18 عاماً، ما يعكس الفجوة الهائلة بين الاقتصادات الأوروبية والاقتصاد الأمريكي.
وبحسب تحليل مجلس البحث الصناعي الأوروبي، فإن البلدان الأخرى، بما في ذلك المملكة المتحدة، تفتقر إلى تمثيل كافٍ في القطاعات الديناميكية مثل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
وفي الصين، التي تُعد المنافس الأكبر للولايات المتحدة في مجال البحث والتطوير، استثمرت الحكومة بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي، بهدف جعل البلاد مركزاً رئيسياً للابتكار في هذا المجال بحلول عام 2030.
ومع ذلك، تظل الولايات المتحدة هي الرائدة في هذه الصناعة، حيث تُهيمن الشركات الأمريكية على النسبة الأكبر من الاستثمارات والمخرجات التقنية.
التفاوت بين أمريكا والدول الأخرى
بينما نمت اقتصادات منطقة اليورو بمعدل يمثل ثلث معدل النمو الأمريكي منذ الجائحة، فإن النمو المتوقع للمنطقة هذا العام لا يتجاوز 0.8%، وفقاً لصندوق النقد الدولى.
بالمثل، سجلت اليابان والمملكة المتحدة نمواً اقتصادياً بنسبة 3% فقط على مدار السنوات الخمس الماضية.
وفي الوقت الذي تُظهر فيه الولايات المتحدة نمواً إنتاجياً غير مسبوق، تُعاني معظم الاقتصادات المتقدمة من دوامة تتمثل في انخفاض النمو، تدهور مستويات المعيشة، ضغوط على المالية العامة، وتراجع النفوذ الجيوسياسي.
الأسباب الهيكلية لتفوق الولايات المتحدة
ترجع الفجوة الإنتاجية بين الولايات المتحدة والدول الأخرى إلى عدة عوامل، من بينها التركيز على الابتكار التكنولوجي والقدرة على استيعاب المخاطر.
يشير سامي شعار، كبير الاقتصاديين في بنك “لومبارد أودير”، إلى أن “الأمريكيين يسعون وراء إنتاجية مدفوعة بالاستثمار والابتكار، بينما يركز باقي العالم على المنافسة القائمة على خفض التكاليف”.
الولايات المتحدة تتبنى نهجاً محفوفاً بالمخاطر، سواء على مستوى الحكومة أو المستثمرين.
فعلى سبيل المثال، يجذب قطاع التكنولوجيا الأمريكي معظم الاستثمارات العالمية في البحث والتطوير، متقدماً على قطاعات مثل الأدوية وصناعة السيارات.
وفيما تكافح الدول الأوروبية لجذب الاستثمارات، تُسيطر الولايات المتحدة على 83% من التمويل الاستثماري المخصص لدول مجموعة السبع خلال العقد الماضي.
عقلية المخاطرة
جزء كبير من نجاح الاقتصاد الأمريكي يمكن رده إلى عقلية المخاطرة التي يتبناها المستثمرون الأمريكيون.
يرى مايكل بوهر، وهو رائد أعمال كندي في مجال التكنولوجيا ومقره سيليكون فالي، أن المستثمرين الأمريكيين يتمتعون باستعداد أكبر لتحمل المخاطر مقارنة بنظرائهم في الدول الأخرى.
يقول بوهر: “الاستثمارات الناجحة تولد صناديق استثمار جديدة، مما يخلق دورة دائمة من الابتكار. هذا ما نسميه ‘تأثير العجلة الدوارة'”.
في المقابل، يعاني رواد الأعمال في أوروبا من نقص في الدعم المالي، حيث يُظهر المستثمرون حذراً مفرطاً تجاه المشاريع الجديدة.
يروي جوستس لاوتن، مؤسس شركة “فود فوركاست” الألمانية، أن بيئة الاستثمار في بلاده “محبطة للغاية”، مشيراً إلى أن رأس المال المغامر في ألمانيا يميل إلى تجنب المخاطر الكبيرة، ما يعيق تطور الشركات الناشئة.
التحديات التي تواجه الاقتصادات المنافسة
الدول الأخرى تواجه صعوبات كبيرة في مضاهاة هذا الديناميك الأمريكي.
يعاني الاقتصاد الكندي، على سبيل المثال، من تراجع إنتاجية العمل، حيث تقلصت الإنتاجية في 14 من آخر 16 ربعاً، وفقاً لبيانات رسمية.
ووصف نائب محافظ بنك كندا، كارولين روجرز، هذا الوضع في مارس الماضي بأنه “حالة طوارئ اقتصادية”.
في المملكة المتحدة، يمتد ما يُعرف بـ”أزمة الإنتاجية” إلى ما بعد الأزمة المالية العالمية.
يُلقي بارت فان آرك، المدير العام لمعهد الإنتاجية في المملكة المتحدة، باللوم على “الاستثمار العام والخاص البطيء بشكل مزمن، بالإضافة إلى عدم انتشار التقنيات الحديثة عبر الاقتصاد”.
أما منطقة اليورو، فقد شهدت تباطؤاً مماثلاً، حيث انخفض نمو إنتاجية العمل من 5.3% في السنوات الخمس التي سبقت عام 2007 إلى 2.6% في السنوات الخمس التي سبقت عام 2019، ثم إلى 0.8% فقط في السنوات الأخيرة.
دور التكنولوجيا في الفجوة الإنتاجية
تعتبر التكنولوجيا هي المحرك الأساسي لتفوق الولايات المتحدة، كما أشار ماريو دراجي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي.
وأوضح دراجي في تقرير له أن “استثناء قطاع التكنولوجيا من حسابات الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي يجعل معدلات النمو متساوية تقريباً مع الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين”.
تظهر البيانات أن الاقتصادات المتقدمة الأخرى تفتقر إلى الاستثمار في البحث والتطوير، لا سيما في القطاعات سريعة النمو مثل البرمجيات والذكاء الاصطناعي.
بينما تستثمر الصين بشكل كبير في هذه المجالات، تظل الولايات المتحدة هي الرائدة بلا منازع، حيث تمثل الشركات الأمريكية النصيب الأكبر من الاستثمارات في هذه القطاعات.
المخاطر والتحديات أمام أمريكا
رغم الأداء الاقتصادي القوي، تواجه الولايات المتحدة أيضاً تحديات. يتمثل أبرزها في سياسات الرئيس السابق والمقبل دونالد ترامب، التي تشمل فرض تعريفات جمركية على الواردات، وترحيل المهاجرين، وتخفيضات ضريبية كبيرة.
ويحذر خبراء الاقتصاد من أن هذه السياسات قد تعرقل المزايا الاقتصادية الحالية للولايات المتحدة، ما يؤدي إلى ارتفاع التضخم واستمرار أسعار الفائدة المرتفعة.
رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، حذر أيضاً من أن الإنتاجية قد تعود إلى مستوياتها الطويلة الأجل بعد فترة من الارتفاع. لكنه أكد أن الولايات المتحدة تظل في موقع الصدارة.
التحديات أمام الدول الأخرى
تسعى العديد من الدول المتقدمة إلى تحسين إنتاجيتها للحاق بالولايات المتحدة.
في أوروبا، أشار تقرير دراجي إلى أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى استثمارات سنوية بقيمة 800 مليار يورو (حوالي 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي) لمنع المزيد من التراجع.
أما اليابان، فقد أعلنت عن خطط بقيمة 13 مليار دولار لدعم إنتاج الرقائق الإلكترونية والاستثمار في الذكاء الاصطناعي التوليدي.
في المملكة المتحدة، خصصت الحكومة 100 مليار جنيه إسترليني على مدى السنوات الخمس المقبلة لتحفيز الإنتاجية.
رغم قوة الاقتصاد الأمريكي، فإنه يواجه تحديات اجتماعية كبيرة.
وتتمتع الولايات المتحدة بأعلى مستوى من عدم المساواة في الدخل بين دول مجموعة السبع، وأدنى متوسط للعمر المتوقع، وأعلى تكاليف للإسكان، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
في المقابل، تعتمد الدول الأوروبية على شبكات أمان اجتماعية قوية، لكن تمويل هذه الشبكات يعتمد على تعزيز التنافسية الاقتصادية.
حذرت كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، من أن الفشل في تحسين الإنتاجية قد يهدد النموذج الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا.
الولايات المتحدة تتصدر المشهد الاقتصادي
بينما تتصدر الولايات المتحدة مشهد الابتكار والإنتاجية، تواجه الاقتصادات الأخرى تحدياً مزدوجاً: اللحاق بركب الابتكار الأمريكي، مع الحفاظ على شبكات الأمان الاجتماعي التي تميزها.
وإذا أرادت هذه الدول تعزيز قدرتها التنافسية، فإن الاستثمار في البحث والتطوير يجب أن يصبح أولوية استراتيجية.
وعلى الرغم من التحديات العالمية، يظل الاقتصاد الأمريكي في طليعة الاقتصادات المتقدمة.
ووفقاً لاستطلاع أجرته “كونسنسس إيكونوميكس”، من المتوقع أن يسجل الاقتصاد الأمريكي نمواً بنسبة 1.9% في العام المقبل، ليظل الأسرع نمواً بين اقتصادات مجموعة السبع.
يشير سيمون جودرو، كبير الاقتصاديين في الاتحاد الكندي للأعمال المستقلة، إلى أن الفارق بين الولايات المتحدة وباقي الاقتصادات يشبه سباق 100 متر يفوز فيه أحد المتسابقين بفارق شاسع.
والسؤال الأهم هو: هل يعود هذا الفارق إلى قوة المتسابق الأمريكي أم إلى ضعف منافسيه؟
ربما الإجابة تكمن في مزيج من الاثنين.