تشهد العديد من المدن الأمريكية تحولات جذرية بفعل تدفق الاستثمارات الكورية الجنوبية، التي أسهمت في إنعاش مجتمعات محلية وتطويرها.
في مدينة كوكومو، بولاية إنديانا، التي كانت تعرف تاريخياً بمركز صناعة السيارات، نجد نموذجاً واضحاً لهذا التحول، إذ تعد الآن موطناً لمشروع “ستار بلس إنرجي”، وهو استثمار مشترك بقيمة 6.3 مليار دولار بين شركتي “سامسونج” و”ستيلانتيس”، الذي جعل من المدينة مركزاً لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية.
منذ الإعلان عن المشروع في عام 2022، استقبلت المدينة ما يصل إلى 800 مواطن كوري جنوبي، مما ضاعف عدد السكان الآسيويين في المدينة وأدى إلى تغييرات ثقافية واجتماعية واسعة.
ظهرت مطاعم كورية جديدة، وتم تجديد منشآت لاستيعاب الوافدين، وأصبح الترحيب بالثقافة الكورية جزءاً من الحياة اليومية في كوكومو، حسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
تأثير الاستثمار الكوري على المجتمعات الصغيرة
قادت كوريا الجنوبية عمليات الاستثمار في المنشآت الخضراء في الولايات المتحدة، حيث تعهدت شركات كبرى مثل “هيونداي” و “كيا” و “إل جي” و “سامسونج” بمشاريع ضخمة في مختلف الولايات، حيث بلغ مجموع الالتزامات 21 مليار دولار في العام الماضي، وهو أعلى مستوى منذ أكثر من عقد.
فعلى سبيل المثال، في مدينة سافانا بولاية جورجيا، يجري بناء مصنع “هيونداي” بقيمة 7.6 مليار دولار، بينما في تايلور، تكساس، تُجري محادثات لافتتاح مطاعم كورية لخدمة عمال مصنع “سامسونج” بقيمة 40 مليار دولار.
تعد هذه الاستثمارات فرصة فريدة لإعادة تعريف دور الكوريين الأمريكيين في الهوية الوطنية الأمريكية.
يقول جاي كيم، رئيس غرفة التجارة الكورية الجنوبية في جنوب شرق الولايات المتحدة: “هذه فرصة العمر للكوريين الأمريكيين لإعادة تشكيل هويتهم في أمريكا”.
التحولات الثقافية والبنية التحتية
لم تقتصر التغيرات على كوكومو فقط، ففي جورجيا، مثلاً، أصبح لمدينة أتلانتا مجتمع كوري كبير يحتوي على أكثر من 100 كنيسة كورية ومئات المطاعم والمرافق الثقافية. هذا النمو يعكس استثمارات كبيرة بدأت في الثمانينيات واستمرت حتى اليوم، حيث أدت إلى خلق آلاف الوظائف وتعزيز الترابط بين المجتمعات الكورية والأمريكية.
التحديات والمخاوف المحلية
رغم هذه النجاحات، يواجه هذا النمو تحديات.
في كوكومو، على سبيل المثال، ارتفعت الإيجارات بنسبة 23%، مما دفع السكان ذوي الدخل المنخفض إلى مغادرة المدينة.
ويعبر البعض عن استيائهم من أن العمال الكوريين غير المنتمين إلى النقابات يأخذون وظائف السكان المحليين.
كما أن مستقبل هذه المشاريع يعتمد على استمرار دعم الحكومة الأمريكية، وهو أمر مهدد في ظل خطط الرئيس المنتخب دونالد ترامب لإلغاء التشريعات التي تدعم صناعة السيارات الكهربائية.
الفرص المستقبلية في المدن الصغيرة
من المتوقع أن تستفيد مدن صغيرة أخرى في إنديانا من الاستثمارات الكورية، ففي شمال كوكومو، تعمل “سامسونج” على بناء مصنع بطاريات بقيمة 3 مليارات دولار بالشراكة مع “جنرال موتورز”، بينما في الغرب، تقوم “إس كيه هاينكس” ببناء منشأة تعبئة بقيمة 3.9 مليار دولار لأشباه الموصلات.
يبدو أن استثمارات كوريا الجنوبية، التي حفزتها قوانين مثل “قانون الحد من التضخم” و”قانون الرقائق والعلوم”، قد تساعد الولايات المتحدة على الحد من اعتمادها على الصين.
يقول جاري بارك، المدير التنفيذي في شركة “أبسوليكس”، إن التوترات بين الولايات المتحدة والصين وفرت “حماية” للشركات الكورية لتنمو دون منافسة مباشرة مع الصين.
التأثيرات الثقافية والاجتماعية
التوسع الكوري لم يقتصر على الاقتصاد فقط، فقد ترك أثراً واضحاً على الثقافة الأمريكية.
في كوكومو، أصبح من الشائع رؤية مطاعم تقدم الطعام الكوري أو مؤسسات تعليمية تُدرس اللغة والثقافة الكورية.
ومع ذلك، تتساءل بعض المجتمعات عن استدامة هذا النمو وما إذا كان بإمكان المدن الصغيرة أن تحقق نجاحاً مماثلاً لمدن كبرى مثل أتلانتا، حيث تطورت مجتمعات “كوريا تاون” بشكل أكبر.
وهناك قلق أيضاً من أن يؤدي التوسع الكوري إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، مما يجعل الحياة أكثر صعوبة للسكان المحليين ذوي الدخل المنخفض.
السياسات الأمريكية وتأثيرها على الاستثمار الكوري
يبقى مستقبل هذه الاستثمارات مرهوناً بالسياسات الفيدرالية.
فإذا نفذ الرئيس المنتخب دونالد ترامب تهديداته بإلغاء دعم السيارات الكهربائية، قد تتأثر الشركات الكورية بشكل مباشر.
يقول هيويلينج زو، محلل السيارات الكهربائية، إن عدم اليقين بشأن سياسات ترامب قد يخلق تحديات للشركات الكورية، التي تعتمد على الدعم الفيدرالي للاستمرار في مشاريعها الكبرى.
في النهاية، ورغم التحديات، يبدو أن الشراكة الكورية الأمريكية ستستمر في تشكيل ملامح الاقتصاد الأمريكي، مع استمرار المدن الصغيرة مثل كوكومو في لعب دور رئيسي في هذه القصة الاقتصادية المتنامية.