لطالما كان وزراء المالية الأوروبيون يتنفسون الصعداء قائلين: “على الأقل لسنا كاليونان”، عندما تشتد الأزمات.
لكن اليوم، يصعب على البعض منهم تكرار هذه العبارة.
ففي الثاني من ديسمبر، تراجعت عوائد السندات اليونانية إلى ما دون نظيرتها الفرنسية، مما يعكس ثقة المستثمرين الأكبر في الإقراض لليونان مقارنة بفرنسا.
وبلغ الفارق بين عوائد السندات الفرنسية والسندات الألمانية، التي تُعد معياراً لمنطقة اليورو، 0.8 نقطة مئوية، وهو أعلى مستوى منذ أزمة اليورو في عام 2012، حسب ما أوضحته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
وفي الرابع من ديسمبر، انهارت الحكومة الفرنسية نتيجة خلاف حول الإنفاق.
لكن هل سيتنهد وزراء المالية الأوروبيون قريبًا ويقولون إنهم ليسوا فرنسيين على الأقل؟
يواجه ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي مشاكل خطيرة، تبدأ بعجز الحكومة المالي، إذ تجاوز هذا العجز 6% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وهو أعلى بكثير من توقعات الحكومة وخبراء الاقتصاد المستقلين.
والأسوأ من ذلك، أن صندوق النقد الدولي يتوقع أن يظل العجز عند هذا المستوى، متجاوزًا الحد الأقصى الذي حددته المفوضية الأوروبية عند 3%، حتى نهاية العقد.
يزيد هذا العجز الكبير من حجم الدين العام لفرنسا، الذي يُتوقع أن يصل إلى 115% من الناتج المحلي الإجمالي العام المقبل، أي بزيادة قدرها 17 نقطة مئوية عن عام 2018.
وبحلول عام 2029، سيصل الدين إلى 124% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي.
وهذا سيؤدي إلى ارتفاع الإنفاق على الفوائد من 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.9%، وكل هذا يُفترض أنه في ظل توقعات نمو اقتصادي جيدة.
لكن إذا صدقت توقعات “جولدمان ساكس” التي خفضت توقعات النمو إلى 0.7% فقط العام المقبل، فسيكون عبء الفوائد أكثر إيلاماً، والدين أكبر نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي.
فرنسا ليست الدولة الوحيدة التي أسرفت في الإنفاق، وحتى الدول المعروفة بتشددها المالي، مثل النمسا وألمانيا وهولندا، شهدت عجزاً متزايداً في الأعوام الأخيرة.
وقد بدأ هذا الاتجاه مع جائحة كوفيد-19 وأزمة الطاقة التي أعقبت الحرب الروسية على أوكرانيا.
ففي عام 2022، أنفقت الحكومات على دعم اقتصاداتها أكثر مما فعلت بعد الأزمة المالية العالمية 2007-2009، وفقاً لساندر توردوير، من مركز الإصلاح الأوروبي.
وفي وقت لاحق، ومع تراجع ذكرى أزمة اليورو، زاد السياسيون الإنفاق لمحاولة تقليص الدعم المتزايد للأحزاب الشعبوية، إلى جانب زيادة الإنفاق على التحول الأخضر وتعزيز القوات المسلحة.
قدمت جميع الدول خططًا للتقشف المالي إلى المفوضية الأوروبية، وتبدو الخطة الفرنسية طموحة، حيث تهدف إلى تقليص العجز بنسبة 0.5 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، وهو ما يكفي لتحقيق استقرار الدين، لكن تنفيذ هذه الخطة يبدو حالياً شبه مستحيل سياسيًا.
كما أن فرنسا ليست الوحيدة في مواجهة قيود الميزانية، فحتى الحكومة الألمانية انهارت مؤخراً بسبب خلافات حول الإنفاق، فيما ستواجه إيطاليا ضغوطاً مماثلة في الأعوام المقبلة.
ويتوقع جان فرانسوا روبين، من بنك “ناتيكسيس”، أن تتراجع الفجوة بين السندات الفرنسية والألمانية خلال العام المقبل، قبل أن ترتفع مجددًا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية الصيفية.
ولا يعكس هذا التراجع تحسنًا في التوقعات الاقتصادية لفرنسا، بل يستند إلى استفادتها من موقعها المركزي في منطقة اليورو بجانب ألمانيا.
تاريخيًا، مكن هذا الموقع فرنسا من الاقتراض بأسعار فائدة قريبة من تلك التي تحصل عليها ألمانيا، رغم السياسات المالية الأكثر توسعية، وفقاً لدافيدي أونيجليا، من شركة “تي إس لومبارد” الاستشارية.
لكن هذا الموقع أيضًا يمنع تكاليف الاقتراض من الارتفاع بشكل حاد.
ما إذا كانت الأسواق ستواصل تقديم مثل هذه التسهيلات يعتمد على مدى استقرار فرنسا السياسي.
لا توجد حاليًا تهديدات وشيكة بأزمة مالية، إذ لا تزال البنوك قوية، وأعلن البنك المركزي الأوروبي دعمه لديون الدول الأعضاء، حتى وإن لم يفصح عن ذلك بوضوح.
لكن إذا لم تظهر فرنسا التزامًا فعليًا بخفض العجز، فسيجد البنك المركزي الأوروبي صعوبة في التدخل وشراء السندات الفرنسية.
وفي حال استمر اتساع الفجوة بين عوائد السندات الفرنسية والألمانية، سيواجه صُناع السياسة في البنك موقفًا سياسيًا محرجًا.
وربما ينبغي لهم الاستعداد لمزيد من هذه المواقف المحرجة، لأن فرنسا ليست سوى واحدة من بين العديد من الدول التي تكافح لتحقيق التوازن المالي.