تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لفترة ثانية سيشكل نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وبالتالي على الاقتصاد العالمي ككل. بوعده بإعطاء الأولوية لـ”أمريكا أولاً”، من المتوقع أن تأخذ إدارته الجديدة الحرب التجارية مع الصين إلى مستوى جديد، بفرض تعريفات جمركية على بضائع بقيمة مئات المليارات من الدولارات.
وبينما يظل الهدف هو معالجة الخلل التجاري وحماية الصناعات الأمريكية، فإن تداعيات هذا الصراع الاقتصادي امتدت إلى ما هو أبعد من حدود الدولتين.
فالحرب التجارية الأولى عطلت سلاسل الإمداد العالمية، وأبطأت النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، وأجبرت الشركات الدولية على التكيف مع واقع جديد.
ومع استعداد العالم لفترة مضطربة أخرى، تظل التساؤلات قائمة حول الآثار طويلة الأمد على العولمة، والاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، والاستقرار الاقتصادي العام. عشية إدارة ترامب الثانية، من الضروري التأمل في جذور الحرب التجارية والاستعداد لجولة قادمة قد تكون أكثر تأثيرًا على الاقتصاد العالمي.
الحرب التجارية الأولى بين الولايات المتحدة والصين
كانت جذور الحرب التجارية الأولى قائمة على شكاوى طويلة الأمد بشأن ممارسات الصين التجارية، بما في ذلك اتهامات بسرقة الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا القسري، والدعم الحكومي للشركات المحلية.
وخلال حملته الانتخابية عام 2016، انتقد ترامب الصين مرارًا لاستغلالها الاتفاقيات التجارية وتعهد بتقليص العجز التجاري الأمريكي، بعد توليه منصبه في 2017، فرضت إدارته تعريفات جمركية على الواردات الصينية، بدءًا من الصلب والألمنيوم إلى السلع الاستهلاكية مثل الإلكترونيات والملابس.
وردت الصين بالمثل، مستهدفة المنتجات الزراعية الأمريكية مثل فول الصويا ولحم الخنزير، بالإضافة إلى السلع الصناعية.
وتصاعدت هذه التدابير الانتقامية بسرعة إلى حرب تجارية شاملة. بحلول عام 2019، فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على بضائع صينية بقيمة تزيد عن 360 مليار دولار، بينما فرضت الصين تعريفات على بضائع أمريكية بقيمة 110 مليارات دولار، وهذا التوتر تسبب في حالة من عدم اليقين في الأسواق العالمية، مما دفع الشركات إلى التكيف مع تكاليف أعلى وسلاسل إمداد مضطربة.
اقتصاد عالمي في حالة تغير مستمر
تجاوزت تداعيات الحرب التجارية حدود الولايات المتحدة والصين، فسلاسل الإمداد العالمية، التي أصبحت مترابطة بعمق عبر عقود من العولمة، تأثرت بشكل كبير وسلبي، لأن الشركات التي تعتمد على التصنيع في الصين أو على المستهلكين الأمريكيين واجهت تكاليف إنتاج أعلى وانخفاضًا في الربحية.
على سبيل المثال، شركة “آبل”، التي تحصل على مكونات من جميع أنحاء العالم ولكنها تجمع العديد من منتجاتها في الصين، وجدت نفسها تواجه تعريفات جمركية متزايدة تهدد برفع الأسعار على المستهلكين.
الأسواق الناشئة، وخاصة في آسيا، تأثرت أيضًا، دول مثل ماليزيا وفيتنام شهدت تدفقًا للشركات التي تسعى لنقل الإنتاج بعيدًا عن الصين لتجنب التعريفات الجمركية.
وبينما قدم هذا التحول فرصًا، فإنه شكل ضغطًا على البنية التحتية المحلية وأسواق العمل، في الوقت نفسه، الدول التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات إلى الصين، مثل أستراليا والبرازيل، شهدت تباطؤًا اقتصاديًا مع تراجع الطلب الصيني على السلع. من المتوقع أن تبقى هذه الدول في الخطوط الأمامية في الجولة القادمة من الحرب التجارية.
وقدر صندوق النقد الدولي أن الحرب التجارية قلصت النمو الاقتصادي العالمي بنسبة 0.8% في عام 2019، وهو انكماش كبير بالنظر إلى الحالة الهشة بالفعل للاقتصاد العالمي. عدم اليقين بشأن السياسات التجارية أدى إلى مزيد من تراجع الاستثمارات التجارية، حيث أرجأت الشركات خطط التوسع بسبب مخاوف من تفاقم الأوضاع الاقتصادية.
الرابحون والخاسرون
على الرغم من أن الحرب التجارية الأولى أحدثت اضطرابًا واسع النطاق، إلا أن بعض الصناعات والدول برزت كفائزين نسبيين. في الولايات المتحدة، استفاد مصنعو الصلب المحليون في البداية من التعريفات المفروضة على المنافسين الأجانب، على الرغم من أن هذه المكاسب كانت قصيرة الأمد، حيث أضرت التعريفات الانتقامية على السلع الأمريكية بقطاعات أخرى.
ومن ناحية أخرى، كان المزارعون الأمريكيون من بين أكثر المتضررين، حيث تسببت التعريفات الصينية في انخفاض حاد في الصادرات الزراعية، وردًا على ذلك، قدمت إدارة ترامب مليارات الدولارات كإعانات لتعويض خسائر المزارعين، لكن هذه المدفوعات لم تفعل الكثير لمعالجة الأضرار طويلة الأجل التي لحقت بالزراعة الأمريكية.
عالميًا، استفادت دول مثل الهند والمكسيك وفيتنام من تحويل التجارة والاستثمار. مع بحث الشركات عن بدائل للصين، شهدت هذه الدول زيادة في الاستثمار الأجنبي المباشر وتوسيع القدرات التصنيعية. ومع ذلك، سلطت هذه التحولات الضوء أيضًا على هشاشة العولمة، حيث اضطرت الشركات إلى إعادة النظر في مخاطر الاعتماد المفرط على أي دولة واحدة.
مستقبل التجارة العالمية
الاقتراب من حرب تجارية ثانية في عهد ترامب يسلط الضوء بوضوح على التحديات المتزايدة أمام التجارة العالمية والتعاون الاقتصادي، ويمثل ذلك عودة إلى النزعة القومية الاقتصادية وتراجعًا عن التعددية.
ومع تركيز الدول على تحقيق الاكتفاء الذاتي وحماية الصناعات المحلية، سيصبح مستقبل التجارة العالمية أكثر غموضًا مرة أخرى. ستواجه منظمة التجارة العالمية، التي تقليديًا تتوسط في النزاعات التجارية، صعوبة في الحفاظ على أهميتها في مواجهة الإجراءات الأحادية من قبل القوى الكبرى.
في الوقت نفسه، من المتوقع أن تؤدي حرب تجارية ثانية في عهد ترامب إلى تسريع اتجاه الانفصال بين الولايات المتحدة والصين. ستُجبر الشركات الأمريكية على الدفاع عن استثماراتها في الصين أمام المسؤولين في واشنطن، حيث سيستخدم المسؤولون خطاب “نحن ضدهم” للضغط على مجالس الإدارة.
وسيميل التنفيذيون إلى تنويع سلاسل الإمداد في الشركات بشكل أكبر لتقليل الاعتماد على التصنيع في الصين. هذه الاستراتيجية ستثير مخاوف مستمرة بشأن تفكك الاقتصاد العالمي واحتمالية تصاعد التوترات الجيوسياسية.
دروس من الحقبة الأولى لترامب
ستستغل إدارة ترامب القادمة هشاشة الاقتصاد العالمي ومخاطر المواجهة الاقتصادية بين القوى الكبرى، على الرغم من أن سياساته تهدف إلى معالجة شكاوى مشروعة بشأن ممارسات الصين التجارية، إلا أن نهج فرض التعريفات الأحادية والإجراءات الانتقامية غالبًا ما أدى إلى تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي. بالنسبة للشركات وصناع القرار، تظل الحرب التجارية تذكيرًا صارخًا بالحاجة إلى تعزيز المرونة في سلاسل الإمداد وأهمية الموازنة بين المصالح الوطنية والتعاون العالمي.**
في حين أنه من الضروري تقدير التداعيات الاقتصادية العالمية القادمة، يجب أيضًا الاعتراف بتأثير استراتيجية “أمريكا أولاً” على التنقل العالمي.
وفقًا لمؤشر “هينلي” لجوازات السفر في يناير 2025، كانت الولايات المتحدة ثاني أكبر خاسر خلال العقد الماضي، حيث تراجعت من المركز الثاني إلى التاسع منذ عام 2015.
ولم يتردد الرئيس المنتخب ترامب في الإعلان عن استراتيجياته الخارجية، من كندا إلى الصين، وسيستمر نهجه المباشر في إثارة الشكوك حول قوة جواز السفر الأمريكي في المستقبل.
ولن تُعتبر الحروب التجارية في عهد ترامب مجرد نزاعات ثنائية، بل ستشكل أحداثًا تحولية للاقتصاد العالمي. تعطيل تدفقات التجارة، وزيادة التكاليف، وزرع الشكوك سيتطلب من الشركات والحكومات والمؤسسات الدولية التكيف مع واقع جديد.