تواجه مصر، كسائر الدول النامية، العديد من التحديات التاريخية التى تعوق عمليات التنمية، والتي تتنوع بين تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية، فعلى سبيل المثال تواجه مصر أزمة الأمية التقليدية، على الرغم من انخفاض نسبتها لنحو 16% في عام 2023، بخلاف الأمية التكنولوجية والتى قد تتجاوز 50%، وهي نسب لا تليق بدولة بحجم وتاريخ مصر، في ظل توسع العالم داخل الفضاء الرقمي.
إلى جانب تحديات مكافحة الفساد الإداري ورفع كفاءة الخدمات الحكومية، وخفض وحسن إدارة الإنفاق العام، وأيضاً التحديات الاقتصادية والتى تشمل محاولات دمج الاقتصاد غير الرسمي، ومكافحة الفقر، وخفض البطالة، وزيادة الإيرادات والصادرات، وغيرها.
وعلى الرغم من كافة المحاولات الحكومية والشعبية للتغلب على تلك التحديات؛ إلا أنها مازالت مستمرة بل وبعضها في تزايد، ولا سبيل للقضاء عليها بالطرق التقليدية وحدها.
مؤمن سليم يكتب: ضرورة الإصلاح الإداري
ولكن استخدام الإنترنت وانتشاره من شأنه أن يعزز، ضمن استراتيجية متكاملة، مواجهة تلك التحديات، وتحسين مستوى الدخل، ورفع معدلات الإنتاج والقضاء على الأمية، ورفع مستوى الوعي والثقافة، من خلال آلاف التطبيقات المختلفة وبرامج الذكاء الإصطناعي المُطورة.
إن ضمانة انتشار ووصول الإنترنت للجميع أصبح حجر الزاوية في تحقيق التنمية المستدامة، ولا يوجد دليل عملي أكثر من تجربة مصر مع الحكومة الذكية، والتي بدأت منذ عام 1997 حين بدأ توصيل الإنترنت إلى المنازل والمكاتب بعد أن كان مقتصر على الجامعات ومراكز المعلومات وعدد محدود من الجهات الحكومية بعام 1992، ثم أطلقت الحكومة المصرية في عام 2002 مبادرة “الإنترنت للجميع” بالتعاون مع الشركة المصرية للاتصالات، وشركات مزودى خدمات الإنترنت، حيث أصبح تكلفة الإنترنت بسعر المكالمة العادية.
وفي 2004 أطلقت الحكومة المصرية مبادرة الإنترنت “فائق السرعة- ADSL-“، الأمر الذى شجع على انتشار الإنترنت وزيادة أعداد المستخدمين وصولاً إلى 82 مليون مستخدم تقريباً عام 2024، ما يمثل نسبة انتشار نحو 72%، كما بلغت حجم التجارة الإلكترونية في مصر بعام 2024 نحو 9 مليارات دولار، ونسبة المعاملات المالية الإلكترونية 5% من إجمالي المدفوعات، مما يعني أنه مازال هناك سوق واعد لشركات الفينتك والمدفوعات الإلكترونية بنسبة 95%.
مؤمن سليم يكتب: المشروع القومى للتنمية البشرية “البداية”
كما أن هناك العديد من التجارب الدولية التي وظفت الإنترنت في القضاء على التحديات والمشكلات، بل وأصبحت رائدة في مجال التكنولوجيا، مثل الهند التى كانت تعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة، ومع انتشار الإنترنت والاستثمار في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؛ تحولت إلى قوة اقتصادية صاعدة، كما أنها عمدت إلى استخدام برامج وأنظمة إلكترونية للوصول إلى الأميين في جميع المناطق، مما ساعد في تحديد أعدادهم وأماكن تواجدهم وخفض أعدادهم.
وهناك تجربة كينيا التي كانت تعاني من نقص في البنية التحتية المصرفية التقليدية، مما كان يُعيق وصول الكثير من المواطنين إلى الخدمات المالية، إلا أنه مع انتشار الهواتف المحمولة وتطبيقات الخدمات المالية عبر الهاتف مثل M-Pesa، أصبح بإمكان الكينيين إجراء التحويلات المالية ودفع الفواتير والادخار بسهولة وأمان.
وأيضاً تجربة بنجلاديش في التمكين الاقتصادي للمرأة وتعزيز مشاركتها في سوق العمل، والتي مع انتشار الإنترنت، بدأت العديد من النساء في استخدام منصات التجارة الإلكترونية لبيع المنتجات الحرفية والمنزلية، مما أتاح لهن مصدر دخل مستقل ومكنهن من المشاركة في الاقتصاد وتعزيز نمو اقتصاد البلاد.
كما ساهم الإنترنت في رواندا بتحسين جودة التعليم والرعاية الصحية في المناطق الريفية، وفي المغرب ساهم في تعزيز قطاع السياحة من خلال توفير معلومات شاملة للسياح وتسهيل عمليات الحجز عبر الإنترنت.
مؤمن سليم يكتب: دعوة لهيكلة منظومة الدعم حتى لا نُورث الفقر
ومن هنا نرى أن تقليص الفجوة الرقمية وتحفيز الاقتصاد الرقمي وانتشار الإنترنت؛ يجب أن يكون على رأس أولويات السياسات العامة، خاصة في ظل ارتفاع النمو السكاني والتوسع العمراني الذي تشهده مصر خلال السنوات الأخيرة، حيث يعمل الإنترنت على تعزيز فاعلية السياسات العامة في كافة المجالات، مما يفرض علينا ضرورة توفير الإنترنت ودعم انتشاره بجودة وسرعة عالية وتكلفة منخفضة، خاصة أن مصر تعتبر حالياً أحد أهم مراكز تبادل البيانات على مستوى العالم، حيث أنها تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث عدد الكابلات البحرية التى تمر عبر أراضيها بعدد 17 كابلًا تقريباً، وجار العمل على إنشاء المزيد.
يتطلب دعم انتشار ووصول الإنترنت للجميع عدد من السياسات العامة المتكاملة التي تعمل على تحسين البنية التحتية، من خلال زيادة التغطية وتعزيز السرعة وجودة الخدمة، وهو إحدى أهم إنجازات مبادرة حياة كريمة، والتى تمكنت من مد مئات القرى بكابلات الألياف الضوئية لتوفير خدمة الإنترنت فائق السرعة، إلى جانب إنشاء وتطوير أبراج المحمول لتحسين جودة خدمات الاتصالات.
كما يجب العمل على تقليل تكلفة الوصول إلى الإنترنت وهو ما يمكن العمل عليه من خلال عدد من السياسات المتنوعة، مثل دعم الإنترنت المجاني في الأماكن العامة والحكومية والجامعات والمدارس وغيرها، بالإضافة إلى ضرورة تقديم خدمات الإنترنت المجانية لمستحقي الدعم الاجتماعي، وأخيراً تقديم بعض الإعفاءات الضريبية، وتخفيض الرسوم الحكومية على الشركات العاملة في مجال تقديم الخدمة، بما يساهم في تخفيض تكلفة وصول الخدمة للمستهلك.
لم يكن الإنترنت في يوم من الأيام رفاهية، والآن أصبح ضرورة حتمية لتحقيقة التنمية، وإتاحة الفرصة لملايين الأفراد لتحقيق نمو وارتقاء اقتصادي، عبر سياسات حكومية فاعلة تعمل على توسيع انتشار واستخدام الإنترنت، ودعم عمليات التعليم والابتكار، في سبيل القضاء على الأمية وخفض نسبة الفقر، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتقليل الفوارق الاجتماعية، وتحسين إدارة الأزمات؛ من خلال تحليل البيانات ونشر المعلومات بسرعة في حالات الطوارئ.