لأول وهلة، يبدو اقتصاد الهند مزدهرا. فمنذ عام 2000، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي 6%، مدعوما إلى حد كبير بقطاع الخدمات.
وقد برزت الخدمات ذات القيمة المضافة العالية، على وجه الخصوص، كمحركات رئيسة للصادرات ونمو الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن رغم هذا السجل المبهر، فشلت الهند في استنساخ التحول السريع إلى التصنيع الذي حققته اقتصادات ناشئة عملاقة أخرى مثل الصين.
في الواقع، شهدت الهند تراجعا كبيرا في التصنيع على مدار العقود القليلة الماضية، وهذا يهدد آفاق نموها في الأمد البعيد.
وتتفاقم المشكلة بسبب انخفاض حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي على نحو مضطرد، حتى رغم استمرار القطاع في توظيف 43% من القوى العاملة.
يعكس هذا الاتجاه انخفاض إنتاجية العمالة في الزراعة ــ وخصوصا في القطاع غير الرسمي الضخم ــ مقارنة بالقطاع غير الزراعي.
مع ارتفاع تكاليف العمالة في الصين، توقع كثيرون من المحللين توسعا هائلا في قاعدة الهند الصناعية.
وبدا أن الهند، بما لديها من إمدادات هائلة من العمالة، مستعدة لاجتذاب المستثمرين الدوليين الباحثين عن قوة عمل منخفضة التكلفة في مجال التصنيع، وهذا بدوره يعزز اقتصادات الحجم الكبير.
ولكن في حين سجلت قطاعات التصنيع داخل اقتصادات أصغر حجما بدرجة كبيرة مثل بنجلاديش وفيتنام نموا سريعا في السنوات الأخيرة، تراجعت الهند.
يشير المعلقون غالبا إلى عوامل مثبطة مثل قوانين العمل الجامدة في الهند، وارتفاع معدلات تكوين النقابات، والبنية الأساسية الرديئة، ونظام تمليك الأراضي.
ولكن رغم أن هذه القضايا لعبت بلا شك دورا في تقييد صناعات بعينها، فإن مثل هذه التفسيرات تفشل في تعليل حقيقة مفادها أن ولايات الهند الثماني والعشرين وأقاليمها الاتحادية الثمانية تتمتع باستقلالية كبيرة في إدارة سياسات العمل، والأراضي، والبنية الأساسية.
لو كانت العقبات الرئيسة التي تحول دون التصنيع تتمثل في ضوابط العمل التنظيمية أو تكوين النقابات، كانت بعض الولايات لتعدل سياساتها لاكتساب ميزة تنافسية والظهور كقوة صناعية.
ولكن رغم الاختلافات السياسية والهيكلية الكبيرة بين الولايات، لم تكن هذه هي الحال.
يكمن تفسير أكثر منطقية في التحول الذي شهده سعر الصرف الحقيقي في الهند بعد تحرير حساب رأس المال في عام 1991.
تسببت هذه الإصلاحات، التي أُدخِـلَـت في الاستجابة لأزمة ميزان المدفوعات، في ارتفاع قيمة الروبية، وبالتالي تآكل القدرة التنافسية التي تتمتع بها الصادرات الهندية وتثبيط التصنيع في مختلف الولايات والأقاليم.
ورغم ارتداد بعض تدفقات استثمارات الحافظة في الوقت الحالي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، بما سمح بانخفاض قيمة العملة، فمن المرجح أن ينقلب هذا الاتجاه مرة أخرى في الاتجاه المعاكس.
علاوة على ذلك، عملت تدفقات رأس المال إلى الداخل نتيجة لتحرير حساب رأس المال في الهند على تعزيز الطلب على الأصول المحلية، الأمر الذي أدى إلى طفرة في سوق الأسهم وارتفاع أسعار العقارات.
وجاء التعويض عن هذا الطلب الزائد جزئيا بارتفاع القيمة الاسمية، فأفضى هذا إلى إعادة تقييم الأصول المحلية نسبة إلى العملات الأجنبية.
من المؤكد أن عوامل متعددة كانت وراء تعثر التصنيع في الهند. لكن عددا كبيرا من التحديات التي تواجهها البلاد على هذه الجبهة يمكننا تتبعها إلى اختلال التوازن بين تحرير حساب رأس المال بقوة وعدم كفاية الإصلاحات التجارية.
عكس النهج الذي اتبعته الهند ذلك الذي سلكته بلدان عديدة في أمريكا اللاتينية والتي حررت حساباتها الرأسمالية قبل إصلاح سياساتها التجارية.
على النقيض من ذلك، لم تحرر فرنسا حسابها الرأسمالي إلا في عام 1989، بعد أن أرست الأساس لإطار تجاري قوي.
رغم أن الهند خفضت بعض الحواجز الجمركية بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 1995، فإن الحواجز غير الجمركية لا تزال منتشرة.
وقد تسببت هذه الاحتكاكات التجارية في انحراف تدفقات رؤوس الأموال نحو استثمارات الحوافظ المالية، فأدى هذا إلى تغذية طفرة الإسكان وتعزيز الاستهلاك، وبالتالي تفاقم الاختلالات البنيوية في الهند.
بعبارة أخرى، من الممكن أن تُعزى المشكلات الصناعية في الهند إلى شكل من أشكال “المرض الهولندي”، الذي يشير في الأصل إلى التأثير الاقتصادي المترتب على ارتفاع قيمة العملة في هولندا في أعقاب اكتشاف حقل جرونينجن للغاز في عام 1959.
في حالة الهند، أدى ارتفاع سعر الصرف إلى زيادة محتوى الاستهلاك المحلي من الواردات، فتسبب هذا في مزاحمة الاستثمار وتوليد الريع لمحتكري الاستيراد، الذين تحولوا إلى جماعات ضغط قوية تعارض التصنيع المحلي.
ولأن خلق فرص العمل يظل ضروريا لرفاهة الغالبية العظمى من السكان، فإن تكاليف هذا “المرض الهندي” قد تكون هائلة.
لكن حل معضلة التصنيع في الهند ليس بالمهمة السهلة، حيث أن نُـخَـب الأعمال والنُـخَـب السياسية هناك لديها مصلحة راسخة في الحفاظ على الوضع الراهن.
يتطلب عكس هذا الاتجاه التزاما راسخا بتحويل تدفقات رأس المال نحو الاستثمار المباشر الأجنبي وإزالة الحواجز التجارية، بما في ذلك تلك التي تدعم حاليا المستوردين الاحتكاريين.
بيد أن إعادة فرض الضوابط على حساب رأس المال تهدد بتقويض الاستقرار المالي وردع المستثمرين الدوليين. ومن الأهمية بمكان اتباع نهج استراتيجي مدروس لإدارة هذه المقايضات وتعزيز اقتصاد أكثر توازنا واستدامة.
بإصلاح حساب رأس المال من خلال فرض رقابة على رأس المال شبيهة بضريبة توبين لتثبيط تدفقات المضاربة، وبالتصدي للاختلالات التجارية القائمة منذ فترة طويلة، يصبح بوسع الهند إرسال إشارة واضحة بأنها جادة في التحول إلى قوة صناعية عالمية.
وفي حين يواجه الاقتصاد الهندي تحديات أخرى عديدة، فإن اتخاذ هذه الخطوات من شأنه أن يخلق فرصا جديدة للمستثمرين المحليين والدوليين، وكذا لملايين الهنود المتحمسين للمساعدة في تحويل بلدهم إلى الصين التالية.