أصبح شغف الرئيس الأمريكي بالرسوم الجمركية سياسة مؤسسية
استنتج المؤرخ الاقتصادي تشارلز كيندلبيرجر أن الكساد الكبير عام 1929 كان واسعاً وعميقاً وطويلاً إلى حد كارثي، لأن النظام الاقتصادي الدولي أصبح غير مستقر بسبب عجز بريطانيا وعدم استعداد الولايات المتحدة لتحمل مسئولية استقراره.
كان كيندلبيرجر، يرى أن الاقتصاد العالمي يحتاج إلى قوة مهيمنة، أي زعيم مستعد لتحمل بعض التكاليف والمخاطر لصالح الجميع.
وكتب: “حتى يستقر الاقتصاد العالمي، لا بد من وجود مُثبت واحد”.
لعدة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تلك القوة المهيمنة.
فمن أزمة الديون في أمريكا اللاتينية خلال الثمانينيات إلى الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، ثم الركود المالي العالمي بين عامي 2008 و2009، كانت واشنطن تنسق الاستجابات، وتستفيد من ذلك في الوقت نفسه، لكن قدرة الولايات المتحدة على القيام بهذا الدور كانت تتراجع بالفعل مع صعود الصين، بحسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
وبعد أن أوضحت واشنطن في مؤتمر ميونيخ الأسبوع الماضي أنها لم تعد تضمن الأمن الأوروبي، فكيف يمكن لأحد أن يصدق أنها ستدعم استقرار الاقتصاد العالمي؟
من جانبها، لا تبدي الصين أي رغبة في تحمل هذه المسئولية، بل على العكس، تعمل كقوة مزعزعة من خلال خلق انكماش اقتصادي داخلي تتحمل الدول الأخرى تبعاته.
ومع عدم وجود دولة أو تكتل واحد كبير بما يكفي لفرض الهيمنة أو مستعد للقيادة، نحن ندخل عصراً جديداً محفوفاً بعدم الاستقرار.
في غياب قوة اقتصادية مهيمنة في ثلاثينيات القرن الماضي، كتب كيندلبيرجر، لم يكن هناك من يوفر ثلاثة وظائف حاسمة: الحفاظ على سوق مفتوح نسبياً تستطيع الدول المتعثرة بيع سلعها فيه، وتقديم قروض طويلة الأجل للدول التي تواجه أزمات، والعمل كبنك مركزي عالمي لتوفير الائتمان قصير الأجل بضمانات أثناء الأزمات.
والنتيجة كانت تصاعد الحماية التجارية، وانخفاض قيمة العملات، وتنازع الدول حول الديون، وأزمات مالية معدية انتقلت من مركز إلى آخر.
حتى في الأوقات الاقتصادية الجيدة، لم تعد الولايات المتحدة مستعدة لتقديم هذه الخدمات، أو لا تقدمها إلا بثمن.
أصبح شغف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالرسوم الجمركية سياسة مؤسسية، أما فيما يتعلق بالإقراض طويل الأجل، فقد ظهر توجه جديد عندما اعتبر أن المساعدات الأمريكية لأوكرانيا كانت “استثمار” ويجب أن تحقق عوائد مالية، وهو ما يفتح الباب أمام شكل جديد من الديون الحربية.
قد يتساءل الأمريكيون: لماذا علينا القيام بهذا الدور للعالم؟ وهو تساؤل مشروع، لكن إذا لم تقم الولايات المتحدة بهذه المهمة، فمن سيتولاها؟
وإذا كان الجواب “لا أحد”، فإننا نعود إلى أجواء الثلاثينيات وعلينا الاستعداد لتحديات ذلك الزمن.
ثمة اختلافات بين الثلاثينيات واليوم، قد توفر بعض الاستقرار للنظام. فسعر الصرف العائم، إذا تُرك ليعمل بحرية، يمكن أن يخفف من تأثير رسوم ترامب الجمركية.
وطالما أن الولايات المتحدة تواصل استهلاك أكثر مما تنتج، فإنها ستظل توفر سوقاً للعالم.
لاتزال مؤسسات بريتون وودز – البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – قائمة لتقديم القروض طويلة الأجل للدول المتعثرة، في حين يوفر نظام خطوط تبادل العملات الذي يقوده “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي” آلية لضخ السيولة الدولية عند الحاجة.
كما أن احتياطيات العملات الأجنبية الضخمة التي جمعتها الصين ودول آسيوية أخرى توفر لها بعض الحماية، رغم ذلك، لا ينبغي الاطمئنان كثيراً.
فقد واجه صندوق النقد الدولي صعوبات في التعامل مع أزمات مثل اليونان وأيرلندا والأرجنتين، وأي أزمة تضرب اقتصاداً كبيراً ستتجاوز إمكانياته.
وعادة ما يتطلب تحرك صندوق النقد الدولي قيادة أمريكية، وبالمثل، من الصعب تخيل أن تقدم الدول الآسيوية قروضاً ككتلة موحدة عند الحاجة.
استعداد الولايات المتحدة لتحمل قوة الدولار وتوفير السيولة هو جزء من النظام الحالي، لكنه سيخضع لاختبار صعب في الأوقات العصيبة.
نشر كيندلبيرجر كتابه “العالم في الكساد” عام 1973، وختمه ببضع كلمات عن “مدى ارتباطه بالسبعينيات”، حينها، كان قلقه يتمحور حول الجمود بين الولايات المتحدة المتراجعة والمجموعة الاقتصادية الأوروبية الصاعدة، وهو تخوف يبدو اليوم ساذجاً.
لكنه أعرب عن أمله في تطوير “مؤسسات دولية تتمتع بسلطة حقيقية وسيادة”، وهو أمر يبدو اليوم أكثر بعداً من أي وقت مضى.
أما “مدى ارتباط” أفكار كيندلبيرجر بعقد العشرينيات من القرن الحالي، فهو أكبر وأكثر كآبة.
فاليوم، لدينا قوتان عظمتان متنافستان، وهما الولايات المتحدة والصين. كلتاهما تظنان نفسها قوة مهيمنة، لكن أياً منهما لا ترغب في تحمل مسئوليات الدور.
فواشنطن تتوعد أي طرف يهدد هيمنة الدولار، حتى عندما تكون تصرفاتها نفسها هي التي تضع هذه الهيمنة موضع شك. أما بكين، فترفض وضعها الحالي في النظام الاقتصادي العالمي، لكنها في الوقت ذاته تسهم في زعزعته.
قد لا تأتي أزمة بحجم يستدعي قيادة عالمية وتنسيقاً دولياً لحلها، لكن الحظ لا يدوم إلى الأبد.
من الحكمة تعزيز المؤسسات الدولية قدر الإمكان، ومن الحكمة أيضاً أن تنتهج الدول سياسات داخلية متزنة بحيث لا تجد نفسها في موقف المستجدي أمام الآخرين.
قال كيندلبيرجر: “إذا اعتُبرت القيادة مسئولية جماعية لتوفير منفعة عامة، بدلاً من استغلال التابعين أو البحث عن مكانة شخصية، فإنها تظل فكرة إيجابية”.
ورغم كل عيوبها، فقد قدمت الولايات المتحدة ذلك النوع من القيادة، واليوم يترقب العالم، بقلق، كيف ستبدو الأزمة الاقتصادية أو المالية القادمة في غيابها.