«الكادحون فى أسفل هرم الأجور حالهم أسوأ مما تظهر الإحصائيات»
«العمالة التى تعمل من 5 إلى 9 ساعات يومياً لم تستفد من التحسن فى الأداء الاقتصادى أو ربحية الشركات«
«ارتفاع الرواتب يرتبط بقوة النقابات العمالية»
يقول الكاتب والصحفى، مايكل شومان، فى مقال له فى مجلة «بلومبرج بيزنس ويك»، إن أول ما يدرسه طلاب كليات الاقتصاد فى عامهم الأول هو قانون العرض والطلب: »عندما يرغب الأشخاص فى شىء ولكنه غير متاح بوفرة، يرتفع سعره، وربما لا يوجد قاعدة اقتصادية أساسية ومنطقية بنفس القدر«.
ومع ذلك، يبدو أن اليابان، أرض الغموض الاقتصادى الأبدى، تتحدى هذا المبدأ المقدس، والمشكلة فى ذلك هى الأجور، ويعانى سوق العمالة فى اليابان نقصاً فى العمالة، وهو كذلك منذ عقود، وتراجع معدل البطالة إلى 2.8%، وهو الأدنى فى 23 عاماً، بينما عدد الوظائف المتاحة، مقارنة بالمتقدمين وصل مستويات غير مشهودة منذ أوائل السبعينيات.
وعند إضافة شيخوخة السكان، وانكماش القوة العاملة، تفيد عملية حسابية بسيطة بأن الأجور ينبغى أن ترتفع بمقدار 2% سنوياً على الأقل، وفقاً لظروف السوق الحالية.
ولكن فى الواقع لا تقترب الزيادة من هذه النسبة حتى، وكانت زيادة أجور العمالة العام الجارى اسمية، وفى يوليو، ارتفعت قاعدة الأجور بنسبة 0.5% من العام الماضى، بينما تراجع إجمالى المكاسب، بما فى ذلك المكافآت، بنسبة 0.3%، ورغم ظهور بعض العلامات، مؤخراً، على أن الأجور ربما سترتفع، فإن العمالة بعيدة كل البعد عن الحصول على الأجور التى يستحقونها وفق ظروف السوق الحالية.
وكالمعتاد، اليابان هى حالة متطرفة، ولكنها ليست فريدة، وتراجع نمو الأجور فى معظم دول العالم رغم عودة الاقتصاد العالمى إلى الحياة، وحال العمالة فى الولايات المتحدة، حيث تراجع معدل البطالة لأدنى مستوى فى 10 سنوات عند 4.4%، ليس أفضل، وبلغ متوسط الزيادة فى الساعة 3 سنتات فى أغسطس، مقارنة بالشهر الماضى، أما فى منطقة اليورو، فأظهر متوسط أجر الساعة تحسناً فى الربع الثانى بنسبة 2%، مقارنة بنفس الربع العام الماضى.
ومع ذلك، فإن تكاليف العمالة الإجمالية لم ترتفع بنفس السرعة التى نمت بها فى السنوات قبل الأزمة المالية العالمية فى 2008.
ويعد نقص الزيادة فى الأجور مشكلةً جديةً للاقتصاد العالمى، وقدم الاقتصاديون كل التفسيرات المعقدة لوتيرة الانتعاش البطيئة منذ الكساد الكبير، بما فى ذلك عدم كفاية الإنفاق المالى، والتنظيم الحكومى المفرط، وجادل البعض فى أن العالم انزلق فى دورة طويلة من النمو المنخفض، ولكن ما يتم التغاضى عنه عادة هو محنة أصحاب الأجور.
ولم تستفد العمالة التى تعمل من 5 إلى 9 ساعات يومياً كما ينبغى من التحسن فى الأداء الاقتصادى أو ربحية الشركات، ودون أجور أعلى، لم تستطع الأسرة العادية الإنفاق أكثر، وهذا له تبعات سيئة على النمو.
وبالطبع، الناس أيسر حالاً اليوم مما كانوا عليه منذ الأزمة المالية فى 2008، وارتفعت دخول الأسر فى الولايات المتحدة بنسبة 3.2% – معدلة وفق التضخم – فى 2016، وفق بيانات مكتب الإحصاءات الأمريكى.
ومع ذلك، كشف التقرير نفسه، أن هذه الزيادة ليست فى الأجور، وأن متوسط مكاسب العامل بدوام كامل لم يتغير بشكل جوهرى فى 2016، مقارنة بالعام الذى سبقه، ولكن بفضل سوق العمل المنتعش أصبح الأمريكيون ببساطة يعملون عدد ساعات أكثر.
وتظهر بيانات الاحتياطى الفيدرالى، أن نمو الأجور، رغم تحسنه، لا يزال يتخلف كثيراً عن الوتيرة المشهودة خلال الفترات الماضية التى تراجع فيها معدل البطالة.
ولن تنفى أى بيانات أفضل حقيقة أن العاملين يعانون منذ وقت طويل جداً، فعلى سبيل المثال عند أخذ التضخم فى الحسبان، فإن متوسط المكاسب الأسبوعية فى الولايات المتحدة فى الربع الثانى كان أعلى بنسبة 5.7% مما كان عليه منذ 10 سنوات، وهى نسبة تافهة. وفى دراسة صدرت فى أبريل الماضى، استنتج صندوق النقد الدولى، أن حصة الدخل الوطنى المدفوعة للعمال تتراجع منذ الثمانينيات عبر الاقتصادات المتقدمة، وحتى فى العالم النامى، بعض الدول وعلى رأسها الصين، شهدت تراجعات كبيرة فى هذه الحصة، أيضاً، رغم أنه تم القضاء على الفقر بقدر كبير.
وهذا يعنى أن الأجور لم تواكب المكاسب فى الإنتاجية، كما هو معروف فى علم الاقتصاد، وأن قدراً أكبر من الدخل يتم كسبه من خلال استخدام رأس المال، بمعنى آخر، »المستثمرون يفوزون والعمالة تخسر«.
وبالطبع كان للكساد الكبير تأثير سيئ كبير على رفاهية العمالة، ولكن يرى »شومان«، أن جذور الركود فى نمو الأجور أعمق بكثير، وتعود جزئياً إلى المشكلة التى تسببت فيها العولمة للقوة العاملة.
ووضعت العولة العمالة فى دولة ما فى مواجهة مباشرة مع العمالة فى دول أخرى، وعادة يكون هناك فروق كبيرة بينهم فى مستويات الأجور، كما وجدت العمالة نفسها فى منافسة مع الآلات التى تحل محلها، وقدر صندوق النقد الدولى أن نصف التراجع فى حصة العمالة من الدخل فى العالم المتقدم يعود إلى التقدم التكنولوجى.
وعلاوة على ذلك، تم تهميش النقابات العمالية فى الكثير من الدول، ما حرم الطبقة العاملة من قدرتها على المطالبة بزيادة فى الأجور، وتعانى بعض الدول، أيضاً، من آليات مدمرة للأجور، ففى اليابان على سبيل المثال، أحد أسباب ركود الأجور هو نظام العمالة المزدوج الذى توظف فيه الشركات الكثير من العمالة فى وظائف بدوام جزئى منخفضة الأجر، ما قلص قوة المساومة للنقابات التى كانت قوية يوماً ما.
وقوضت هذه العوامل تأثير الموظفين داخل شركاتهم، ونتيجة ذلك أصبح المدراء يميلون لمكافأة أنفسهم ومدرائهم والمساهمين أكثر من الموظفين العاديين.
وأوضح تقرير صدر عن معهد السياسة الاقتصادية، فى يوليو الماضى، أن المدراء التنفيذيين فى أكبر الشركات الأمريكية حصلوا على 15.6 مليون دولار فى المتوسط كمكافآت فى 2016، وهو ما يعادل 271 مرة متوسط أجر العامل العادى.
ورغم أن هذه الفجوة تراجعت فى السنوات الأخيرة، فإنها لا تزال أكبر بكثير من الـ20 مرة المسجلة فى عام 1965، وبشكل أوسع، أثبتت الدراسات، أن المكاسب التى تحققت فى الأجور اتجهت نحو أعلى هرم الأجور، ما يعنى أن هؤلاء الذين يكدحون فى أسفله حالهم أسوأ مما تظهر الإحصائيات العامة.
ويقول »شومان«، إن التساؤل يكمن فى كيف يمكن أن نبرم مع أصحاب الأجور صفقة عادلة، وهو أمر صعب لأن القوى التى تقمع الأجور لا يبدو أنها تهدأ، ولا نستطيع أن نعود بالزمن للوراء، عندما كانت أسواق العمالة أكثر محلية، رغم مجهودات أشخاص مثل الرئيس اﻷمريكى دونالد ترامب فى ذلك، كما لا نستطيع أن نوقف الابتكار فى تكنولوجيا المعلومات والروبوتات.
ويضيف أنه مع ذلك فإن هناك ما يمكن فعله، وينقل عن هارى هولزر، وكيل فى معهد «بروكينجز»، أن هناك خطوات يمكن اتخاذها لملء الوظائف ذات الرواتب الجيدة الشاغرة فى الولايات المتحدة؛ بسبب نقص العمالة الماهرة، ويقول إنه ينبغى تشجيع الشركات على التعاون مع الجامعات فى تدريب منخفضى المهارات، وأن يبدأوا برامج تدريب تتضمن تدريباً أثناء تولى مهام الوظيفة.
ويقول إن المجهودات ينبغى أن تذهب لأبعد من ذلك، وإحدى الخطوات الأخرى تتمثل فى استعادة بعض قوة النقابات التى تطالب بمصالح العمالة، وهناك ارتباط واضح بين النقابات والرواتب الأعلى، وأظهر تحليل أجراه مكتب إحصائيات العمالة فى 2013، أن العمال المنتمين إلى نقابات يتلقون زيادات أكبر فى الأجور، ويكسبون المزيد من الأموال، ويستفيدون من شركاتهم أكثر من العمال غير المنتسبين لنقابة.
ولكى تستعيد النقابات نفوذها ينبغى أن تحظى بمساعدة الحكومات، واقترح وزير العمالة الأمريكى الأسبق، روبرت رايتش، أن تجعل واشنطن تشكيل النقابات أكثر سهولة، وتفرض عقوبات أقسى على الشركات التى تطرد من يشكلون النقابات.
وهناك طريقة أخرى لرفع الأجور ترد فى المبادئ الرأسمالية القديمة، وهى الأجر بناءً على الأداء، ومناصرو الأعمال الحرة يقولون، إن الجهد الصعب يجب مكافأته ولكن هذه ليست الحالة اليوم، فرغم أن المدراء التنفيذيين تتم مكافأتهم جزئياً بناءً على النجاح الإجمالى للشركة، لا تتم مكافأة الموظفين العاديين المسئولين بنفس القدر مثل المدراء عن هذا النجاح.
وأظهر تقرير صدر عن شركة «باى سكال» التى تتخصص فى بيانات المكافآت، أن ثلاثة أرباع المدراء التنفيذيين ومديرى الإدارات ومديرى الأقسام فى الشركات الخاضعة للمسح حصلوا على مكافآت، بينما حصل أقل من نصف الموظفين العاملين بالساعة على مكافآت، ولن يكون ربط المكافآت بالمساهمات عادلاً، فحسب، وإنما سوف يعزز الولاء والإنتاجية كذلك.
وينهى »شومان” مقاله بالدعوة إلى تدخل الحكومات فى اﻷمر، ويقترح على الساسة إجبار المدراء التنفيذيين إذا لم يتعاونوا مع مثل هذه المخططات، من خلال، على سبيل المثال، استخدام السياسات الضريبية لتشجيع الشركات على مشاركة الأرباح مع الموظفين، مشيراً إلى أن كوريا الجنوبية طبقت هذه التجربة، وفى 2015 فرضت وزارة المالية التى سئمت من احتفاظ الشركات بالنقدية ضريبة عقابية على الشركات التى تفشل فى إنفاق نسبة محددة من الأرباح على الاستثمار أو الأرباح أو الأجور.