آثار الحرب التجارية تتجاوز القطاع الصناعي إلى الخدمات
مر نحو عامان ، على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حربا تجارية على الصين، والتي تسببت في تراجع التصنيع والاستثمار، ما أثقل كاهل الاقتصاد العالمي، وأرهب الأعمال التجارية، وقاد أسواق المال للبحث عن غطاء.
قالت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، إن منتدى دافوس الاقتصادي العالمي لعام 2018 كان يشكل لحظة محورية بالنسبة للاقتصاد العالمي، عندما بعث ترامب رسالة تفيد أن التعريفات الجمركية على اﻷبواب، والقوات الأمريكية قادمة إلى الأسوار.
ومنذ ذلك الحين، تدهورت التوقعات العالمية، إذ توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية انخفاض النمو العالمي من 3.8% في عام 2017، إلى 2.9% في 2019.
ويبدو أن القصة تتشابه في العالم بأسره.. فهناك قطاعات مثل التصنيع- الأكثر عرضة للأحداث العالمية- دخلت في أو على مقربة من الركود، في حين أن الاقتصادات الأوسع نطاقا مدعومة بأسواق العمل والإنفاق الأسري ، لا تزال مبشرة بالخير نسبيا.
في أوروبا، شهد عام 2018 تراجع طفرة عام 2017، وسط التباطؤ السريع للقطاع الصناعي، بقيادة ألمانيا، كما أن هذا القطاع تراجع بوتيرة سنوية تقدر بـ 2% في أحدث بيانات ربع سنوية.
وبالنسبة للولايات المتحدة، بدأ نشاط التصنيع والاستثمار التجاري في التباطؤ بداية من نهاية العام الماضي، إلى أن تراجع تماما في الربع الثاني من 2019.
كما انخفض المؤشر الصناعي لمعهد إدارة الموارد الأمريكي، وهو مسح للمسؤولين التنفيذيين، بصورة مطردة خلال نفس الفترة، إلى أن سجل انخفاضا في شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين.
أما في الصين، فقد اعترف رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ، في سبتمبر الماضي، بصعوبة نمو اقتصاد البلاد بالمعدل السنوي الذي تستهدفه الحكومة، والذي يتراوح بين 6% و 6.5%، مستشهدا بخلفية دولية معقدة.
أوضح بنك “يو.بي.إس” السويسري أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة أثرت بشدة على صادرات واستثمارات المصنعين، في ظل انتظار تطبيق التعريفات الجمركية الجديدة اﻷكبر على الإطلاق في الربع الأخير لهذا العام، والربع الأول من العام المقبل، مما أدى إلى انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ما دون 6%.
واعتبرت أسواق المال، الأخبار السيئة التي تنتشر بداية من الدراسات الاستطلاعية لنشاط الصناعات التحويلية وحتى قطاع الخدمات الأوسع نطاقا، دليلا على أن التباطؤ الاقتصادي العالمي أصبح أكثر خطورة، ما أثار المخاوف تجاه الركود العالمي القادم، الذي يوصف عموما بأنه نمو عالمي ينخفض عن 2% سنويا.
وانخفض مؤشر “إم.إس.سي.أي” للأسهم العالمية بنسبة 1% مؤخرا، على خلفية ضعف مؤشرات التصنيع وقطاع الخدمات العالمية.
واقترب العائد على السندات الحكومية لآجل 10 أعوام من أدنى مستوياته التاريخية في العديد من الاقتصادات المتقدمة، ما يدل على ضعف الثقة في التعافي السريع للنمو والتضخم في جميع الاقتصادات المتقدمة، كما أن العوائد كانت في النطاق السلبي في معظم أنحاء أوروبا، إذ بلغت 0.46% فقط في المملكة المتحدة و 1.53% في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، إذا كانت السحب العاصفة تجتمع حول التجارة والاستثمار والتصنيع، إلا أنها لن تؤثر بشكل خطير على الأسر، خصوصا أن البطالة وصلت إلى أدنى مستوياتها على المدى الطويل في العديد من الاقتصادات المتقدمة، كما أن الدخول الحقيقية للأفراد ارتفعت، وبالتالي تعزز الإنفاق الاستهلاكي الذي يمنع الركود من السيطرة.
وانخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياته في 50 عاما ليصل إلى 3.5% في سبتمبر الماضي، ووصلت البطالة في المملكة المتحدة لأدنى مستوياتها منذ 45 عاما. كما أن البطالة في منطقة اليورو بلغت 7.4% في أغسطس الماضي وهو أقل معدل منذ 11 عاما ويقترب من أدنى المعدلات المسجلة منذ إنشاء منطقة العملة الموحدة.
قال جاي باول، رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي، في تصريحات أدلى بها مؤخرا، إن وضع الاقتصاد الأمريكي جيد، مشيدا بما أطلق عليه “الاحتياطي الفيدرالي”، سوق العمل عالي الضغط، إذ انخفضت البطالة مقارنة بتوقعات الفيدرالي طويلة الأجل، مما جعل الشركات أكثر إبداعا في العثور على الموظفين والاحتفاظ بهم وأكثر استعدادا للدفع مقابل التدريب.
وأضاف: “إن الأفراد المنتمين إلى المجتمعات ذات الدخل المنخفض والمتوسط، يقولون لنا إن هذا الانتعاش الطويل”، مشيرا إلى أن الأفراد الذين كافحوا من أجل البقاء في القوى العاملة في الماضي يحصلون الآن على فرص جديدة.
وأوضحت “فاينانشيال تايمز” أن القوة الاقتصادية، التي تتغذى على التمويل الأسري القوي حتى عندما تكون الشركات مضربة عن الاستثمار، هي التي جعلت رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، آدم بوسن، يتوقع عدم احتمالية حدوث ركود عالمي نتيجة للصدمات التجارية منذ عام 2018.
وقال: “ستحتاج إلى آلية لنقل صدمة الثقة من الاستثمار إلى الاستهلاك ومعظم تلك الآليات غير عادية”، مشيرا إلى أن الصدمة التجارية الخارجية ليست كبيرة بدرجة كافية.
وتسود وجهات نظر مماثلة في البنوك المركزية، التي تقف على خط المواجهة في الاستجابة للتباطؤ الاقتصادي الدوري.
فقد أحبط “الاحتياطي الفيدرالي”، الرئيس ترامب، ولكنه خفض أسعار الفائدة مرتين، وهو رد وصفه البنك بأنه إجراء تحوطي ضد عدم اليقين التجاري الذي تسبب في انخفاض الاستثمار التجاري.
وبالمثل، خفف البنك المركزي الأوروبي سياسته النقدية مرة أخرى في محاولة لوقف التباطؤ.
ولكن في كل مكان، ثمة مخاوف من أن السياسة النقدية لن تقدم حافزا فعالا إذا كان التباطؤ الصناعي يزداد بخطى متسارعة، ولعل هذا الأمر يبرز بشكل أكبر في الصين، إذ ساهمت الظروف المالية المتشددة في تباطؤ الاقتصاد نظرا لحملة نزع فتيل المخاطر المالية التي شهدتها البلاد.
وعلى عكس التباطؤ السابق في 2015، عندما شجعت الصين البنوك على زيادة الإقراض، استجابت بكين لتلك الحملة من خلال الاعتماد بشكل أكبر على توسيع سياساتها المالية مثل التخفيضات الضريبية.
وقال أندرو بولك، من شركة “تريفيم تشاينا” الاستشارية، إن المسؤولين الصينيين أظهروا استعدادهم لاتخاذ فرصة لمجموعة من أدوات السياسة غير المثبتة وعلى الأرجح أقل فعالية، حتى وسط عدم اليقين المتزايد من التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وأضاف أن هذا الأمر ربما يحصل على موافقة صندوق النقد الدولي في اجتماعاته السنوية المنعقدة حاليا، فهي رسالة لقادة العالم بأن الحرب التجارية لها آثار خطيرة على الاقتصاد العالمي وتهدد بحدوث ركود أكثر خطورة، وبالتالي ستحتاج الدول إلى توفير حوافز مالية أكبر إذا أمكن ذلك حال لم يكن التخلص من التعريفات الجمركية وإعادة تبني العولمة أمرا ممكنا.