يحدث التغيير الهيكلى فى إفريقيا، ولكن بنمط متميز عن التجربة التاريخية للبلدان الصناعية وشرق آسيا المعاصرة حيث يلعب التصنيع الذى تقوده الصادرات دوراً أصغر فى التحول الهيكلى لاقتصادات أفريقيا.
وفى الواقع، انخفض نصيب الصناعة التحويلية فى الناتج المحلى الإجمالى لأفريقيا فى المتوسط منذ عام 1980، وبدلاً من ذلك، تمتص الخدمات الجزء الأكبر من العمال الأفارقة الذين يتركون الزراعة وينتقلون إلى المدن على الرغم من أن بعضها ذات إنتاجية منخفضة للغاية.
وتعكس هذه التغييرات تأثير التقدم التكنولوجى وتغير السوق العالمية وهبات الموارد الطبيعية على آفاق التصنيع فى أفريقيا.
وفى الوقت نفسه، أدت التخفيضات فى تكاليف النقل والتقدم فى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى إنشاء خدمات وشركات زراعية تتقاسم خصائص مع التصنيع مثل قابلية التداول والقيمة المضافة العالية لكل عامل كما أن لديها القدرة على التعلم ونمو الإنتاجية.
والأهم من ذلك، بين عامى 1998 و2015، نمت صادرات الخدمات أكثر من 6 مرات أسرع من صادرات البضائع فى جميع أنحاء أفريقيا.
والجدير بالذكر أن قدرات العمل المؤسسى والمعرفة الضمنية وممارسات العمل تلعب دوراً رئيسياً فى تحديد الإنتاجية والجودة.
ولعدم وجود مصطلح أفضل، فإن معهد “بروكنجز” الأمريكى يسميها “صناعات بدون مداخن” لتمييزها عن الصناعات التقليدية ذات المداخن.
ويشير المصطلح الى تلك الأنشطة القابلة للتداول ولها قيمة مضافة عالية لكل عامل مقارنة بمتوسط الإنتاجية على مستوى الاقتصاد، وكذلك قدرة العرض على التغيير التكنولوجى ونمو الإنتاجية ويمكن أن تمتص أعداداً كبيرة من العمالة الماهرة المعتدلة، وبالإضافة إلى ذلك، تظهر قطاعات الصناعات بدون مداخن بعض الأدلة على وفورات الحجم أو التكتل.
وأصبح عدد من هذه النظم ذات أهمية متزايدة فى أفريقيا، بما فى ذلك الصناعات الزراعية والبستنة، والسياحة، وبعض خدمات الأعمال ومن بينها الخدمات القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالإضافة إلى النقل والخدمات اللوجيستية.
ولكن، هل يمثل نمو الصناعات التى لا تحتوى على مداخن فرصة للتصدى لتحدى بطالة الشباب؟.. تجيث هذه الدراسة عم السؤال حيث أطلقت مبادرة “نمو أفريقيا” فى “بروكنجز” مشروعاً متعدد السنوات لتقييم إمكانات خلق فرص العمل لأفريقيا وفيما يلى عرض للنتائج الأولية من دراسة الحالة التجريبية لدولة جنوب أفريقيا كنموذج.
كانت جنوب أفريقيا فى فخ النمو المنخفض منذ بداية الحكم الديمقراطى عام 1994 وبين عامى 1994 و2017 نما نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بمعدل 1% فقط فى السنة، ونتيجة لذلك، حققت البلاد تخفيضات متواضعة فقط فى مستويات فقر الأسر، إلى جانب عدم المساواة العالية والمتزايدة.
ويعد سوق العمل محركاً رئيسياً لعدم المساواة، حيث يوجد عدد كبير من أصحاب الدخل الصفرى على مقايس توزيع الدخل، والذى يتسم بشكل بارز بارتفاع معدلات بطالة الشباب.
ويصل معدل بطالة الشباب فى جنوب أفريقيا الى نحو 55% عام 2018 وهو أعلى بكثير من البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى المماثلة أو بلدان أخرى فى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وكما هو الحال مع البطالة الإجمالية، فإن بطالة الشباب فى جنوب أفريقيا كانت أيضاً فى اتجاه تصاعدى واضح منذ عام 2008.
وعلى غرار العديد من البلدان فى جميع أنحاء أفريقيا، فشل مسار النمو الحالى بجنوب أفريقيا فى توفير فرص عمل كافية للعاطلين عن العمل من ذوى المهارات المنخفضة واتسم اقتصاد جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصرى بوجود قطاع أولى متآكل وقطاع تصنيع راكد.
وبدلاً من ذلك، كان هناك تحول نحو قطاعات الخدمات، حيث شهدت الخدمات المالية والنقل والبناء وغيرها من الخدمات نمواً فى التوظيف.
ويذكر أن قطاعى الخدمات المالية والمجتمعية قد استأثرا بأكثر من نصف الزيادة فى التوظيف بين عامى 2000 و2019.
ويعد التحول نحو الخدمات دون نمو الصناعات التحويلية سمة من سمات معظم دول أفريقيا، لكن فى دول أفريقية أخرى اتسم التحول نحو الخدمات إلى حد كبير بالتحول لخدمات منخفضة الإنتاجية، وغالباً فى القطاع غير الرسمى، لكن فى جنوب أفريقيا، تعتبر الخدمات المالية والمجتمعية من القطاعات عالية الإنتاجية نسبياً.
وفى الوقت نفسه، لم يولد التحول نحو خدمات القطاع الرسمى، حجم ونوع الوظائف اللازمة للحد من البطالة وعدم المساواة.
وباختصار، فى حين أن التحول إلى الخدمات قد يتيح لجنوب أفريقيا فرصة لنوع التحول الهيكلى الذى كان قائماً فى السابق على النمو فى التصنيع، فإن هذا الإنجاز يعتمد، بشكل مهم، على نوع الخدمات.
ومن بين 8.9 مليون وظيفة فى القطاع الخاص الرسمى فى جنوب أفريقيا خلال عام 2019، تمثل القطاعات الخدمية أكثر من الثلثين “68%”، أى أكثر من ضعف حصة القطاعات غير العاملة فيها.
وتعد أكبر قطاعات التوظيف غير الصناعية هى الخدمات المالية والتجارية بنسبة 23% والتجارة 16% والسياحة 9% فى القطاع الخاص الرسمى.
وفى ظل عدم وجود نمو بقطاع الصناعات التحويلية، يبدو أن جنوب أفريقيا تسير بالفعل على طريق التحول الهيكلى الذى يتميز بالتحول نحو الصناعات بدون مداخن لكن بشكل يضم فئات أوسع، وهناك عدد من القطاعات الفرعية التى قد تكون أكثر ملاءمة لمواجهة تحديات التوظيف فى جنوب أفريقيا.
وعلى الرغم من أن توزيع المهارات فى التوظيف بقطاعات الخدمات وغيرها من القطاعات غير الصناعية متشابه على نطاق واسع، فإن زيادة عدد من أنشطتها التى تتطلب عمالة أكثر كثافة قد توفر فرصاً أفضل لقوة عاملة ذات مهارة متدنية وشبه منخفضة.
والجدير بالذكر أن حصة العمالة عالية المهارات هى الأدنى فى القطاعات غير الصناعية حيث تمثل أقل من 10% فى التصنيع الزراعى والبستنة والزراعة التجارية الأخرى.
وتصل حصة العمالة شبه الماهرة بين القطاعات المختلفة إلى حوالى 65% لكن حصة العمالة ذات المهارات المنخفضة وشبه الماهرة مجتمعة هى أعلى بالنسبة للقطاعات غير الصناعية حيث تكون أكثر حدة فى السياحة والبستنة والمعالجة الزراعية بنسبة 90% من جميع العمالة.
وبالتالى، فإن هذه القطاعات لديها القدرة على خلق فرص عمل للقوى العاملة منخفضة المهارات على نطاق واسع، إذا كان من الممكن زيادة نطاق التشغيل لهذه القطاعات.
وتهدف البحوث ذات الصلة الى توسيع خيارات التغيير الهيكلى ونمو الوظائف فى أفريقيا، وعلى وجه الخصوص، يمكن أن يكون للجهود المبذولة لتنمية القطاع غير الصناعى نتائج متشابهة أو أفضل على العمالة مثل الجهود المبذولة لتوسيع التصنيع فى جنوب أفريقيا، حيث إن هذه القطاعات تتطلب عمالة أكثر كثافة من التصنيع والاقتصاد بشكل عام. وفى الواقع، تشير التوقعات المستخلصة من النتاج الأولية لأبحاث معهد “بروكنجز” إلى أنه على مدى العقد المقبل أو نحو ذلك، يمكن للقطاعات غير الصناعية أن تولِّد وظائف جديدة فى القطاع الرسمى بثلاثة أضعاف ونصف أكثر من القطاعات الصناعية.
كما أن الجهود المبذولة لتوسيع “القطاع الصناعى بدون مداخن” قد تكون لها نتائج توظيف أكثر شمولاً من تلك التى تحققت من زيادة النمو فى قطاعات التصنيع وغيرها من القطاعات غير المرتبطة بها.
وفى الواقع يبدو أن هذا القطاع فى جنوب أفريقيا أكثر كثافة فى توظيف النساء والشباب من القطاعات الأخرى.
ويعتبر قطاعى السياحة والتجهيز الزراعى مزدحمين بشكل خاص فى توظيف النساء، فى حين أن البستنة والسياحة لديها أعلى حصة من الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً، وهذا الاتجاه نحو الشمولية سبب آخر يجب على الحكومات أن تسن سياسات لدعم تطوير هذه القطاعات.
ويوجد ثلاثة مجالات تتعلق بمناخ الاستثمار لها صلة خاصة بالقطاعات التى لا تحتوى على مداخن وتصنيع وهى البنية التحتية والمهارات والبيئة التنظيمية.
وبالنسبة لضعف البنية التحتية وخاصة الطاقة الكهربائية والنقل فهما أكبر عائق يؤثر على إنتاجية الشركات مما يعيق تطوير أى قطاع.
55% معدل البطالة بين الشباب فى جنوب أفريقيا
كما تشكل قوة العمل غير الماهرة بشكل كاف عائقاً أيضاً فما يقرب من 60% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة قد أكملوا المرحلة الابتدائية فقط، و19% فقط تجاوزوا المرحلة الثانوية.
وفى جنوب أفريقيا على وجه الخصوص، تبلغ نسبة القوى العاملة التى تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً والتى تعانى ضعف المستوى التعليمى حوالى 46%.
ويعد نقص المهارات فى جنوب أفريقيا مرتفعاً بشكل خاص بالنسبة للمهارات الأساسية مثل فهم القراءة والاستماع النشط والتحدث والكتابة.
وتعانى مهارات المراقبة والتعلم الاستراتيجى والتفكير النقدى والتعلم النشط من نقص كبير فى جنوب أفريقيا، فى حين يقدم العمل فى القطاعات غير الصناعية فرصاً لتوظيف الأفراد ذوى المهارات المنخفضة، وبدون بذل جهد متضافر لمعالجة الفجوات الحالية فى المهارات، فإن الإمكانات الكاملة لهذه القطاعات لن تستغل.
ونظراً لأن الإنتاجية فى الخدمات لها تأثير هام على مستويات الإنتاجية فى الاقتصاد عموماً، فإن تمكين المنافسة من خلال الإصلاحات التنظيمية أمر ضرورى.
ويمكن أن تؤدى إزالة الحواجز التى تحول دون الدخول الأجنبى إلى الخدمات لزيادة المنافسة وتقليل التكاليف وتوسيع الوصول إلى مجموعة أوسع من الخدمات المتميزة.
وبالنسبة لمعظم البلدان فى أفريقيا، تمثل أسواق التصدير الإقليمية والعالمية أفضل فرصة للقطاعات غير الصناعية.
ولموازنة التكاليف التى يتحملها المشغلون الأولون، تحتاج الحكومات الأفريقية إلى تطوير حزمة من سياسات التجارة وأسعار الصرف والاستثمارات العامة والإصلاحات التنظيمية والتغييرات المؤسسية التى تهدف إلى زيادة حصة الصادرات غير التقليدية من الناتج المحلى الإجمالى وبعبارة أخرى، تحتاج الحكومات إلى تنظيم “دفعة تصدير” على غرار شرق آسيا.
ومثل التصنيع، تستفيد هذه القطاعات من التكتل، بما فى ذلك أسواق العمل الكثيفة، والمعلومات غير المباشرة والمعرفة، والقدرة على تبادل النفقات والخدمات العامة.
وفى حين ركزت معظم الحكومات الأفريقية على استخدام المناطق الاقتصادية الخاصة لتعزيز التصنيع، فإن المناطق الاقتصادية الخاصة ذات الصلة بالخدمات والصناعات القائمة على الزراعة مهمة كذلك.
ومن خلال معالجة هذه القيود على نمو القطاعات غير الصناعية والتصنيع معاً، لن تضطر الحكومات إلى الاختيار بين السياسة التجريبية التى تركز على التصنيع وسياسة تعزيز الخدمات القابلة للتداول والزراعة عالية القيمة، فكلاهما يمكن أن يحقق التغيير الهيكلى ونمو الوظائف.