يعبر مصطلح الثورة الصناعية الرابعة عن نتائج دمج العوالم الرقمية والبيولوجية والفيزيائية معاً، وبالنسبة لأفريقيا، فإن العشرية الأولى من القرن الجديد شهدت اضطراباً اقتصادياً واجتماعياً بحسب تقرير لمعهد “بروكنجز” الأمريكى للأبحاث فى حين انشغل العالم المتقدم بالاستخدام المتزايد للتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعى والحوسبة السحابية والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد وإنترنت الأشياء والتقنيات اللاسلكية المتقدمة وأمور أخرى.
وخلال القرن الماضى فوتت ظروف صعبة مصدرها الأول الاحتلال من قبل القوى العظمى وما تركه من آثاره وأتباعه، الفرصة على القارة السمراء لكى تلحق بالثورات الصناعية الماضية، ولكن هل ستكون هذه المرة مختلفة؟
حتى الآن، لا يبدو أن أفريقيا استقبلت القرن الـ21 بالشكل المناسب، حيث لاتزال متأخرة فى العديد من المؤشرات الأساسية لثورة رقمية ناجحة، وكان التحسن فى قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مدفوعاً إلى حد كبير بتوسيع نطاق الخدمات المالية الرقمية المتنقلة، حيث سجلت المنطقة ما يقرب من نصف حسابات الأموال عبر الهاتف المحمول العالمية فى عام 2018 وسوف تشهد أسرع نمو فى الأموال المحمولة حتى عام 2025.
ويجذب الذكاء الاصطناعى وسلسلة الكتلة الاهتمام أيضاً فى أفريقيا، حيث أنهما لديهما القدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية بنجاح، وهناك العديد من المجالات الأخرى التى يمكن أن تكون فيها تقنيات الثورة الصناعية الرابعة تحويلية، ويمكن الاستفادة من التحول إلى الثورة الصناعية الرابعة من خلال عدة محاور منها:
1- تشجيع النمو الاقتصادى والتحول الهيكلى
فى السنوات الأخيرة استمر نمو قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى أفريقيا، وهو اتجاه من المرجح أن يستمر، حيث خلقت التقنيات والخدمات المتنقلة 1.7 مليون وظيفة مباشرة رسمية وغير رسمية على حد سواء، وساهمت فى توليد 144 مليار دولار من القيمة الاقتصادية بما يعادل 8.5% من الناتج المحلى الإجمالى فى منطقة دول جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، وساهمت بمبلغ 15.6 مليار دولار للقطاع العام من خلال فرض الضرائب.
ولقد حلت الرقمنة أيضاً مشاكل عدم تناسق المعلومات فى النظام المالى وسوق العمل، مما أدى إلى زيادة الكفاءة واليقين والأمن فى بيئة يكون فيها تدفق المعلومات حاسماً بالنسبة للنمو الاقتصادى وخلق فرص العمل.
وعلى العكس من ذلك، فإن عدم الاعتراف بفرص الثورة الصناعية الرابعة والاستفادة منها، سيفرض مخاطر كبيرة على أصحاب المصالح الأفارقة، فبدون محاولات تجاوز النماذج الحالية للابتكار، وريادة الأعمال، والنمو الرقمى فى القارة، تخاطر الشركات الأفريقية بالتخلف أكثر فى حين تستمر ظاهرة تفاقم “الرقمية” العالمية ما يعنى خفض قدرتها التنافسية العالمية.
ويتطلب تجاوز النماذج الحالية الانضباط فى تطبيق الحوكمة للسماح ببيئة مبتكرة داخلية، وفى الوقت نفسه، يجب على المؤسسات حماية السوق من خلال قوانين وأنظمة حماية المستهلك التى تشجع المنافسة.
2- محاربة الفقر وعدم المساواة
يمكن أن يؤدى انتشار التقنيات الرقمية إلى تمكين الفقراء من الوصول إلى المعلومات وفرص العمل والخدمات التى تحسن مستوى معيشتهم، ويمكن للذكاء الاصطناعى، وإنترنت الأشياء، وسلسلة الكتلة تعزيز فرص جمع البيانات وتحليلها لاستراتيجيات أكثر استهدافاً وفعالية للحد من الفقر.
ولقد شهد العالم بالفعل القوة التحويلية للخدمات المالية الرسمية من خلال الهواتف المحمولة التى تصل إلى المحرومين، بمن فيهم النساء، الذين يشكلون محركاً مهماً للقضاء على الفقر بشكل مستدام، وتتيح هذه الخدمات المالية للأسر الادخار فى أدوات آمنة لتوسيع قاعدة أصولها والهروب من دورات الفقر.
3- إعادة اختراع العمل والمهارات والإنتاج
بحلول عام 2030، ستكون القوى العاملة المحتملة فى أفريقيا من بين أكبر القوى العاملة فى العالم فإذا ما اقترنت بالبنية التحتية والمهارات اللازمة للابتكار واستخدام التكنولوجيا فستمثل الثورة الصناعية الرابعة فرصة هائلة للنمو.
وفى الواقع، فإن هذه الثورة تغير بشكل جذرى أنظمة العمل والإنتاج العالمية، ويتطلب من الباحثين عن عمل تنمية المهارات والقدرات اللازمة للتكيف بسرعة مع احتياجات الشركات الأفريقية والأتمتة على نطاق أوسع.
وبالفعل، أصبح السكان العاملون فى أفريقيا أفضل تعليماً واستعداداً لاغتنام الفرص التى توفرها الثورة الصناعية الرابعة، وعلى سبيل المثال، من المقرر أن تزداد حصة العمال الحاصلين على تعليم ثانوى على الأقل من 36% فى عام 2010 إلى 52 % عام 2030.
4- زيادة الخدمات المالية والاستثمار
لقد أثرت الرقمنة على النمو الاقتصادى من خلال التمويل الشامل، مما مكن الأنشطة غير المقيدة من الدخول فى الإجراءات الشكلية من خلال منصات المدفوعات الإلكترونية بالتجزئة ومنصات الادخار الافتراضية والعروض الائتمانية.
وعلى نطاق أوسع، فإن الرقمنة تمكن رواد الأعمال والشركات من إعادة التفكير فى نماذج الأعمال الأكثر تأثيراً واستدامة والمتصلة بقطاعات الاقتصاد الأخرى.
وعلى سبيل المثال، تساعد التكنولوجيا الفائقة فى تجاوز الرقمنة للقطاع المالى ليصل التأثير إلى القطاع الحقيقى والأسر وتحويل تصاميم المنتجات ونماذج الأعمال عبر قطاعات السوق وفقاً لذلك.
وبالنسبة الشركات فهى قادرة على تصميم المنتجات والتجارة عبر الإنترنت، والأفراد قادرون على تشغيل الخدمات المالية والمدفوعات للتسوق والاستثمارات، وتقوم الحكومة أيضاً بالانتقال إلى منصات الإنترنت لتوفير الخدمات العامة بشكل ملائم.
وهناك تقنيات أخرى للثورة الصناعية لها تأثير أيضاً، فعلى سبيل المثال، فى غرب أفريقيا وكينيا، مكنت سلسلة الكتلة من التحقق الفعال من سجلات الممتلكات والمعاملات، وتوسيع نطاق الوصول إلى الائتمان فى بعض قطاعات الاقتصاد غير الرسمية سابقاً فتم تقليل الاحتيال والتهرب، وبالتالى تكلفة المخاطرة.
وهناك أيضاً فرصاً هائلة لخلق فرص العمل فى أفريقيا فبالنظر إلى أن القطاع غير الرسمى يقدر بنسبة 55% من الناتج المحلى الإجمالى لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يمكن أن تكون هذه الأدوات تحويلية، ومن المتوقع أن تكون نتائجها عبارة عن زيادة الإدماج المالى، مما يسهم فى زيادة تراكم رأس المال والاستثمار، وبالتالى إمكانية خلق فرص العمل.
5- تحديث الزراعة والصناعات الزراعية
لايزال يتعين على أفريقيا الاستفادة من الإمكانيات الكاملة لقطاعها الزراعى، وتوفر تقنيات الثورة الصناعية الرابعة فرصة للقيام بذلك، وتمثل الزراعة وحدها 60% من إجمالى العمالة فى أفريقيا جنوب الصحراء، ومن المتوقع أن يضيف نظام الأغذية وظائف أكثر من قطاعات الاقتصاد الأخرى بين عامى 2010 و2025.
ويتطلب النجاح فى مخطط التنمية الاهتمام بالعمالة والدخل فى المزارع، خاصة فى دول جنوب الصحراء الكبرى، حيث تمثل الأنشطة فى المزارع حوالى 50% من إجمالى الدخل فى الريف فى بلدان مثل إثيوبيا وملاوى ونيجيريا وتنزانيا.
ويمكن أن تساعد المعلومات المتعلقة بالأسعار التنافسية، ومعلومات المحاصيل التى تتم مراقبتها، ونصائح الوقاية من الأمراض، ودعم التخفيف من الكوارث فى تغيير القطاع الزراعى لتحسين الدخل والإنتاج والطلب فى جميع أنحاء القارة.
وعلاوة على ذلك، مع ارتفاع الدخول فى جميع أنحاء القارة، فإن طلب المستهلكين المتزايد على الأغذية والمشروبات سوف يتزامن مع نمو الأعمال التجارية فى التصنيع الزراعى.
وتقدم شركتا “فارم لين” و”أجروسنتا” اللتان تتخذان من غانا مقراً لهما، تكنولوجيا المحمول ومواقع الإنترنت للمزارعين لتقديم المشورة الزراعية ومعلومات الطقس والنصائح المالية.
وتقوم شركة “زينفوس” وهى شركة ناشئة فى نيجيريا، تقوم بقياس وتحليل بيانات التربة لمساعدة المزارعين على تطبيق نظام الأسمدة الصحيح ورى المزارع على النحو الأمثل.
وقد ابتكر مهندس أوغندى آلة “Sparky Dryer”، وهى آلة تجفيف تستخدم الوقود الحيوى لتجفيف المنتجات وتقليل هدر الطعام، ويستخدم رواد الأعمال والشركات الناشئة فى أفريقيا أيضاً إنترنت الأشياء لمساعدة المزارعين على تحسين الإنتاجية وتقليل النفايات من خلال تقنيات الزراعة الدقيقة التى تعتمد على البيانات.
6- تحسين الرعاية الصحية ورأس المال البشرى
تواجه البلدان الأفريقية العديد من التحديات الصحية التى تفاقمت بسبب تغير المناخ والبنية التحتية المادية المحدودة ونقص المهنيين المؤهلين ويمكن أن تساعد تقنيات الثورة الصناعية الرابعة فى تخفيف هذه التهديدات وبناء أنظمة رعاية صحية مستدامة، خاصة فى الدول الهشة.
وأصبحت تكنولوجيا الأجهزة المحمولة منبراً لتحسين البيانات الطبية وتقديم الخدمات، حيث يستخدم حوالى 27 ألف من العاملين فى مجال الصحة العامة فى أوغندا نظاماً متنقلاً يسمى “mTrac” للإبلاغ عن مخزون الأدوية.
ويعمل برنامج “SMS for Life”، وهو شراكة بين القطاعين العام والخاص، على تقليل نقص الأدوية فى مرافق الرعاية الصحية الأولية عن طريق استخدام الهواتف المحمولة لتتبع وإدارة مستويات المخزون من علاجات الملاريا وغيرها من الأدوية الأساسية.
تعزيز الابتكار يضخ الدم فى شرايين خطط التنمية
وأصبحت رواندا أول دولة تقوم بدمج الطائرات بدون طيار فى نظام الرعاية الصحية الخاص بها، وذلك باستخدام المركبات الجوية المستقلة لتوصيل خدمات نقل الدم إلى المناطق النائية، كما عملت التكنولوجيا على تحسين الاستجابة للكوارث، فأثناء تفشى فيروس “إيبولا” فى غرب أفريقيا عام 2014، أصبح تطبيق “واتس أب” وسيلة سهلة لنشر المعلومات وفحص الأعراض والتواصل مع الحجر الصحى.
واستفادت جهود اكتشاف المرض والإنتاج الدوائى على الفور من الرقمنة، حيث يتم تطبيق الذكاء الاصطناعى ببطء فى إثيوبيا لمساعدة المهنيين الطبيين فى تشخيص سرطان عنق الرحم وغيره من التشوهات بشكل صحيح.
وتستخدم شركة “آى بى إم” للأبحاث فى أفريقيا أيضاً الذكاء الاصطناعى لتحديد الطرق المثلى للقضاء على الملاريا فى مواقع محددة واستخدام نظرية اللعبة وتحليلات بيانات التعلم العميق لتشخيص الأمراض واختناق الولادة.
استراتيجيات التغلب على التحديات الرئيسية
من الواضح أن التقنيات الحديثة تقدم فرصاً كبيرة وكذلك تحديات لأفريقيا وتتمثل القضية الرئيسية لواضعى السياسات فى كيفية تجهيز اقتصاداتهم للاستفادة منها وإدارة التحديات التى تطرحها وفيما يلى 3 استراتيجيات يجب على القادة تحديد أولويات تطبيقها.
1- إصلاح عدم تطابق مهارات العمل
بما أن توفير فرص العمل للشباب الناشئ يمثل أولوية فى معظم البلدان الأفريقية، فإن العديد من الحكومات تحجم عن دعم التقنيات التى تهدد الوظائف الحالية، وتميل بعض التقنيات الحالية إلى الاستعاضة عن العمال ذوى المهارات المتدنية، والتى تعانى أفريقيا بوفرتها بالعمال ذوى المهارات العالية، مما يقيد الاستفادة من الفرص المتاحة للاقتصادات ذات المهارات الجيدة.
ويجب أن تستثمر الحكومات الأفريقية فى برامج التعليم وإعادة التشكيل لضمان أن تكون التكنولوجيا مكملة للعمل بدلاً من أن تحل محلها.
2- تعزيز الحوكمة والاندماج فى سلاسل القيمة العالمية
يقع الابتكار فى القلب من الثورة الصناعية الرابعة وتعزيز القدرة المؤسسية والتنافسية ما يجعل دفع ودعم الابتكار وخلق بيئة عمل مواتية أمر ضرورى للنجاح، وينطوى التحدى التنظيمى الرئيسى على زيادة الأمن السيبرانى فيما تفتقر معظم البلدان الأفريقية إلى إطار قانونى شامل وقدرة مؤسسية للتصدى للجريمة الإلكترونية، وبدلاً من ذلك، تظهر الجهود المبذولة لمنع الجريمة السيبرانية على المستوى المحلى أو تنفذها جهات فاعلة فى القطاع الخاص بنفسها.
وعلى سبيل المثال، بين عامى 2015 و2016، كانت هناك زيادة بنسبة 73% فى الشركات المعتمدة لنظام إدارة أمن المعلومات من 129 فى عام 2015 إلى 224 فى عام 2016، لكن الغالبية كانت فى جنوب أفريقيا ونيجيريا والمغرب.
ويعد اعتماد القواعد واللوائح المقبولة على نطاق واسع والملائم خطوة أولى لزيادة الأمن السيبرانى وفى الوقت نفسه، يجب على الشركات الاستثمار فى موظفيها لتطوير مهارات الأمن السيبرانى ودمج حماية مخاطر الإنترنت فى عملية صنع القرار.
وتوفر اتفاقية التجارة الحرة لأفريقيا القارية فرصة فريدة لتعزيز الاستفادة من التقنيات الجديدة من خلال السياسات والإجراءات المتوافقة ويمكن للقارة أن تتكيف مع التغيرات السريعة والاستفادة منها لتسريع المشاركة فى سلاسل القيمة العالمية.
3- تطوير البنية التحتية المادية والرقمية
الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة فى أفريقيا مقيد بمشكلات البنية التحتية مثل نقص الكهرباء وانخفاض كثافة انتشار الهواتف وكثافة الإنترنت وانتشار تقنية النطاق العريض للبث ونتيجة لذلك، لايزال استخدام الهاتف المحمول والإنترنت منخفض نسبياً.
وتشمل الاختناقات التكنولوجية الأخرى الافتقار إلى واجهات برمجة التطبيقات الموحدة ولغات البيانات الشائعة لزيادة تكامل أنظمة الاكتفاء الذاتى إلى حد كبير وكذلك التعرض لمخاطر الهجمات الإلكترونية.
ويعد تسريع الاتصال لشبكات الألياف الضوئية، بالإضافة إلى إمكانية التشغيل البينى للمنصات الافتراضية أمراً مهماً ليس فقط لتحسين التكنولوجيا فى القارة، ولكن للوصول إلى خفض التكاليف للذين يعانون من نقص الخدمات.
وعلى نطاق أوسع، فإن تطوير البنية التحتية الكافية سوف يدفع ويدعم التحول الاقتصادى فى أفريقيا، فمع انخفاض تكاليف النقل والاتصالات يمكن للبلدان ذات الظروف الزراعية البيئية المناسبة إنتاج منتجات عالية القيمة.
ويعد إنهاء صعوبات الاتصال بالإنترنت وفجوة الوصول مع الاقتصادات المتقدمة دافعاً للمزيد من البلدان الأفريقية لدخول أسواق تصدير الخدمات وقد تصبح الشركات المصنعة صغيرة النطاق فى أفريقيا أكثر قدرة على المنافسة مع الوصول إلى المنصات الرقمية للبحث والمبيعات والتوزيع.