بعد أسابيع قليلة على وباء “كورونا”، يشير كثيرون إلى التناقض الصارخ بين ما حدث للاقتصاد الحقيقى والأسواق المالية.
وهذا التوتر بين الاقتصاد الحقيقى و”وول ستريت” يغذيه كل من الإرث والقضايا الحالية، ويسلط الضوء على وضع السياسات الاقتصادية والمالية، ويقود عاملان هذا التوتر.
فعلى جانب الإرث، لاتزال الأزمة العالمية حاضرة فى أذهان العديد من الأشخاص، وعلى عكس الأزمة الحالية، تسبب “وول ستريت” في أزمة بشعة في 2008 أدت إلى ركود كبير فى الاقتصاد الحقيقى والذى انزلق تقريباً إلى كساد.
وكان “وول ستريت” المستقبل الأول لحزم إنقاذ ضخمة مكنته ليس فقط من التعافي سريعاً وإنما حافظ على أجوره الجيدة خلال فترة التعافي.
وما أضاف على مشاعر عدم العدالة أن القليل من قادة “وول ستريت” عانوا خلال الأزمة ناهيكم عن مساءلتهم أو إرسالهم للسجن.
وعند العودة إلى الوقت الحالى هناك مجدداً انفصال ضخم بين حظوظ الاثنين، والذى ظهر سريعاً.
ويتعامل الاقتصاد الحقيقى مع تراجعات تاريخية فى الوظائف (تقدم 30 مليون عامل بطلبات بدل البطالة فى 6 أسابيع فقط)، وفي النشاط الاقتصادي (4.8% انكماشاً في الناتج المحلى الإجمالى على أساس سنوى في الربع الأول مع التوقعات بانكماش يصل إلى 30% أو 40% الربع الحالى)، كما تخفض أجور هؤلاء المحظوظين كفاية للاحتفاظ بوظائفهم.
ويظهر الألم والمعاناة المرتبطة بكل ذلك، ليس فقط في الطوابير الطويلة خارج بنوك الطعام حول الدولة، ولكن أيضاً فى التقارير عن تزايد العنف المنزلى والاضطرابات العقلية.
ومن ناحية أخرى، يخرج “وول ستريت” من أفضل شهر على الإطلاق فى 33 عاماً، كما أن الأسواق الرأسمالية مفتوحة على مصراعيها لأغلب الشركات المدرجة لإصدار سندات والحصول على تمويل، كما أن جزءاً كبيراً من القطاع المالي محصن من موجة التسريحات الكبيرة أو الإفلاسات التى تعانى منها الشركات فى أمريكا.
ومدى هذا التباين لم يمر مرور الكرام ويثير بالفعل المخاوف، ومع ذلك هناك أسباب مفهومة تجعل الحلول صعبة.
وأثبت “الفيدرالى” مجدداً في هذه الأزمة أنه المؤسسة الأسرع استجابة وقوة في اتخاذ القرارات السياسية، وبعد عثرة مبدئية، تحرك بجرأة وفعالية لضمان أن أزمة مالية على غرار 2008 لا تفاقم الخطر الحقيقي والقائم لوقوع كساد يشبه الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن هذا يمكن فعله فقط من خلال ضخ تريليونات الدولارات في الأسواق الرأسمالية، وبالتالى يعزز بحدة أسعار الأصول المالية التى تمتلكها الشرائح الميسورة من المجتمع الأمريكى.
وتم كذلك تطبيق سياسات مالية بكثافة، ولكن انجاز الأشياء على هذا الجانب أكثر صعوبة لأنها تتطلب موافقة الكونجرس فى كل تحرك (على عكس أغلب تدابير الفيدرالى السياسية الأخرى).
كما أن هناك التحدي الآخر المتعلق ببناء قنوات لتوصل المساعدات للفئات المستهدفة سريعا والنتيجة كانت المزيد من المخاطر والتراجع في الفاعلية لا يمكن تجنبهما.
وكلما استمر هذا التباين، ازداد انسكاب الوقود على النار: الأغنياء مقابل الفقراء.. الشركات مقابل الأفراد.. الأجيال الحالية مقابل المستقبلية، وهكذا.
وتتمثل الاستجابة الصحيحة للوكلات الحكومية والفيدرالي في بذل مجهودات لغلق الفجوة بين الجانبين بطريقة منظمة من خلال خطوات مثل القيام بتصحيح مسار مجهودات الإغاثة لضمان فعالية أكبر عندما يتطلب الأمر، وتصميم خطط تعافي جديدة تستهدف النمو المرتفع والشمولي والمستدام وبالتالي تجنب تكرار أخطاء 2008 المتعلقة بكسب الحرب ضد الركود.
ولكن الفشل في حفظ سلام البنوك المركزية، وتولية اهتمام أكبر بكثير للمخاطر الأخلاقية في الأسواق المالية والمخاطر المرتبطة بعدم الاستقرار المالي المستقبلي التي يمكن أن تلوث الاقتصاد الحقيقي.
وعلاوة على ذلك، لدى الفئات الميسورة من المجتمع دورا هاما لتعلبه ويدفعها إلى ذلك المصالح العامة والفردية، ويتعين على المزيد من الشركات تعزيز مجهوداتهم للمسئولية المجتمعية، ومثل القطاع العام، ينبغي أن تركز تلك المجهودات على الإغاثة (التبرعات لبنوك الطعام على سبيل المثال) وعلى التعافي (مثل المساعدة – سواء بمفردهم أو بالتعاون مع الشركات الأخرى – على برامج تدريب وإعادة تأهيل للوظائف منخفضة التكلفة التي قد لا تعود).
وسيرغب البعض في المجادلة بأن التباين الصارخ الحالي بين حظوظ القطاع المالي والاقتصاد الحقيقي هو أمر لا مفر منه، وهي نقطة غير سارة في رحلة التعافي قابلة النجاح، وسوف يرى أخرون أن الأزمة الحالية مثال متكرر على مدى ميل النظام لخدمة هؤلاء المنعّمون بالفعل سواء في الأوقات الجيدة أو السيئة.
وأيا كانت وجهة نظرك، ينبغي أن نتفق جميعا على الأولوية الملحة لفعل المزيد لضمان سد الفجوة بطريقة منظمة تؤدي إلى تعافي سريع وأكثر شمولية في سياق الاستقرار المالي الحقيقى.
بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادى لمجموعة “أليانز”، ورئيس كلية “كوينز” بجامعة “كامبريدج”.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”