الحدود الفاصلة بين السياسات النقدية والمالية آخذة فى التلاشى
يعمل صانعو السياسات، على طمس الخطوط الفاصلة بين اقتراض الأموال التى يحتاجونها وإيجاد تلك الأموال ببساطة، فى ظل اضطرارهم إلى تسجيل إنفاق قياسى ناتج عن التهديد بوقوع كساد عظيم آخر.
وحاولت معظم الاقتصادات الحديثة، إبقاء النشاطين منفصلين قدر الإمكان، ولكن الإعداد النموذجى بالنسبة للسياسيين المنتخبين كان يتمثل فى تولى مسئولية الموازنات وتلبية أى عجز عن طريق الاقتراض فى أسواق السندات، فى حين كانت آلة طباعة النقود منفصلة فى فرع آخر من الحكومة، وهو البنك المركزى.
ولكن هذه الفواصل بدأت تظهر وكأنها مليئة بالثغرات بعد الأزمة المالية العالمية فى 2008، ثم اختفت جميعها خلال فترة الركود الناتج عن تفشى فيروس كورونا المستجد.
وذكرت وكالة أنباء “بلومبرج”، أن الإنفاق العام هو الأمر الوحيد الذى يحافظ على بقاء ملايين الأسر والشركات، فى ظل تسبب الوباء فى إغلاق صناعات بأكملها وارتفاع معدلات البطالة، ومعاناة الحكومات المسئولة عن جهود الإغاثة من أكبر عجز موازنة فى التاريخ. فهم يدفعون على الأقل بعضاً من الفواتير من خلال ما يعتبر قروض فعالة من بنوكهم المركزية، وهي ديون يمكن ترحيلها إلى أجل غير مسمى، وتعتبر فى الواقع أشبه بالمال.
وفى الولايات المتحدة، من المقرر أن يشترى البنك الاحتياطي الفيدرالى سندات بقيمة 3.5 تريليون دولار هذا العام- وفقاً لتقديرات بلومبرج إيكونوميكس – معظمها سيكون سندات خزانة، التى تغطى جزءاً جيداً من توقعات العجز المالى البالغة 3.7 تريليون دولار على الأقل.
ولا أحد يدرك تحديداً موعد انتقال الديون من الميزانية العمومية إلى أيدى مستثمرى القطاع الخاص، إذا كان ذلك سيحدث، وثمة قصص مشابهة فى الاقتصادات المتقدمة من أوروبا إلى اليابان، وحتى فى بعض الأسواق الناشئة، مع انضمام إندونيسيا وبولندا إلى ميدان المعركة.
ويكمن الخوف من التضخم خلف الحظر طويل الأمد لما يعرف باسم “تسييل الديون”، خصوصاً أن التاريخ حافل بالأحداث عندما وضع السياسيون سيطرتهم على المطابع ووضعوا كثيراً من المال في جميع جوانب الاقتصاد، مما تسبب في خروج الأسعار عن نطاق السيطرة وتآكل القيمة الحقيقية لجميع أنواع المدخرات، بداية من الحسابات المصرفية وحتى حافظة السندات.
وذكرت “بلومبرج”، أن البنوك المركزية فُصلت عن بقية الحكومة من أجل تطبيق ضوابط عندما يتجاوز السياسيون حدودهم.
وقال الاقتصادي بول ماكولي، كبير الاقتصاديين السابق فى شركة “باسيفيك إنفستمنت مانجمنت بيمكو”، الذى ساعد فى توجيه الشركة “وصاغ مصطلحات مثل “بنوك الظل” و”لحظة مينسكى”، إن الأمر من المحتمل أن يتطلب هذا الاستقلال الذاتى مرة أخرى ذات يوم.
وخلال فترة تفشى الوباء، يرى خبراء الاقتصاد أن التهديد يأتى من الاتجاه المعاكس، إذ يشكل الانكماش خطراً أكبر، ففى الدول المتقدمة بطيئة النمو، تميل السياسة بالفعل إلى هذه الطريقة لسنوات، وبالتالي كان التحدي هو تحفيز الاقتصادات، وليس تهدئتهم.
وعندما نفذت المساحة المتاحة أمام صانعى السياسة للقيام بذلك عن طريق خفض أسعار الفائدة، تطرقوا إلى تجربة طرق أخرى، وكان التأثير يقوض تدريجياً الفصل التقليدى بين السياسات النقدية والمالية.
وبالنظر إلى ما مضى، من الصعب تحديد ما إذا كان هذا الحد الفاصل قد تم تجاوزه أو متى تم تجاوزه بالفعل.
وبعد انهيار عام 2008، شهد العالم بأسره إعادة الجدل، حيث جمعت المزيد من الدول عجزاً أكبر في الميزانية مع ما يسمى بالتخفيف الكمى، فقد اشترى الاحتياطى الفيدرالى سندات الخزانة في السوق المفتوحة من خلال قائمة مختارة من المتداولين، كما قامت البنوك المركزية الأخرى باتخاذ ترتيبات مماثلة، ولكن هناك سياسات أكثر من ذلك بكثير اتخذت في ظل الأزمة الراهنة.
ويعتقد المحاضر الأول في جامعة ييل، ستيفن روتش، أنه لم يكن هناك بديل حقيقى، فالاقتصاد وقع فى أكبر مأزق شهده على الإطلاق، وبالتالى هناك حاجة إلى حوافز مالية ضخمة، يتعين على البنك المركزى تمويلها.
وأوضح الرئيس السابق غير التنفيذى لدى “مورجان ستانلى” فى آسيا، روتش، أن هذا الأمر لا يدل على عدم وجود عواقب.
وأضاف أن قيمة الإنفاق المدعومة من الاحتياطى الفيدرالي الأمريكي تعني أن التضخم قد يبدأ فى الارتفاع بعد تفشي الوباء بالفيروس، مشيراً إلى أن حملة السندات دائماً ما يعاقبون فى فترة ارتفاع التضخم.
ومرت عقود زمنية منذ أن تحملت الاقتصادات المتقدمة أى شىء من هذا القبيل عن بعد، فقد ظل التضخم ضعيف أو غير موجود على الإطلاق، رغم اقتراض الكثير من الحكومات أو إقراض محافظى البنوك المركزية.
وآثار غيابه الطويل، الدعوات المطالبة بتخليص الاقتصادات من الانكماش الناجم عن الفيروس، حتى لو كان ذلك يعنى المزيد من عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الديون والأموال.
وفى الاتحاد الأوروبى، على سبيل المثال، اقترح المستثمر المخضرم جورج سوروس، تكاتف الدول الأعضاء لإصدار “سندات دائمة” التى لا يتعين سدادها على الإطلاق، مع سداد كوبونات بنسبة 0.5% أو نحو ذلك، وإذا خفض ذلك الكوبون بنصف نقطة مئوية- وفقاً لكبير مسئولى الاستثمار فى “أكسا إنفيستمنت مانجيرز” أليساندرو تينتورى- ستكون الأوراق المالية فى الأساس نقدية، ولن يكون هناك فرق بين السندات الدائمة البالغة 0% والعملة.
وأوضحت “بلومبرج”، أن صك العملات المعدنية- البلاتينية البالغ قيمتها تريليون دولار لكل منها- هو ما ستفعله وزارة الخزانة الأمريكية بموجب مشروع قانون قدمته النائبتان رشيدة طليب وإلهان عمر، اللتين اعتقدتا أن هذا الإجراء سيمول شيكات التحفيز للأسر دون إجراء أى إضافة للدين الوطنى وإثارة صراع حول السداد فى المستقبل.
ويعتقد مدير المحفظة فى شركة “بيمكو”، نيكولا ماى، أن الحكومات وبنوكها المركزية ربما تتوقف عن تحويل الدين العام بشكل صريح إلى أموال، باعتبار أن المخاطر التى تهدد الاستقرار النقدى تفوق أى فوائد.