فيما يلى لمحة عن كيف قد يغير فيروس كورونا العالم.
ستعكس الحكومات المدمرة من الوباء، وتكاليف دعم الإغلاق، والعاطلين، عقودا من انحسار دورها، وستأخذ دورا أكثر قوة فى اقتصاداتهم.
وستقوم الشركات التى نقلت أعمالها إلى الصين واستفادت من الملاذات الضريبية بجلب هذه الأنشطة إلى الموطن.
وفى صدى لما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، سيحل عصر جديد من التساوى محل تفحل القطاع الخاص وتراجع القطاع الحكومي.
وهى صورة مغرية ولكن لا تعتمد كثيرا على تحولها إلى واقع.
وقال أستاذ اللوجيستيات فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يوسى شيفي: «افترضوا أننا عند نقطة ما حصلنا على مصل أو مناعة القطيع، وعدنا إلى حياتنا الطبيعية بعد عام من الآن.. يكمن التساؤل فى هل سنعود إلى العولمة كما كنا من قبل أم سنبدأ فى جلب سلاسل التوريد إلى الوطن؟».
نادرا ما تفلح محاولات إصلاح النظام التجارى العالمى من أعلى إلى أسفل بعد صدمات سلاسل التوريد، لكن عالم ما بعد فيروس كورونا سيكون على الأرجح مختلفا قليلا، فقد يتباطأ النمو فى التجارة الإلكترونية بالفعل مع ركود النمو ولكن حصة التجارة الذاهبة إلى الصين والملاذات الضريبية سوف يزداد بدلا من أن ينكمش.
وعادة ما تشبه سلاسل التوريد الحديثة، الأنظمة البيولوجية فى تعقيداتها واعتمادها المتبادل، ومع انتشار الوباء، امتدت القيود على تصدير الإمدادات الطبية من مواقع قليلة إلى العالم بأكمله تقريبا، وتهدد مشكلات تجارة الغذاء، مثل القيود على صادرات الأرز التى فرضتها فيتنام فى مارس وإغلاق كثير من المصانع لتعليب اللحوم فى أمريكا بعد تفشى الفيروس بين العاملين، بأزمة فى سلاسل إمدادات الغذاء التى يعتمد عليها مليارات البشر.
وستتراجع مبيعات السيارات العالمية بنسبة %22 العام الحالي، وفقا لـ»آى إتس إس ماركيت»، وهو تراجع أقوى مما عانت منه الصناعة أثناء الأزمة المالية العالمية فى 2008/2009، كما تراجع الطلب على الشحن الجوى فى مارس بنسبة %15.2 مقارنة بالعام الماضى وفقا لرابطة الشحن الجوى الدولية، كما أن السعة المتاحة للشحن تراجعت بنسبة %22.7 ما يهدد بتكدس الحمولات عندما لا يكون هناك طائرات كافية متاحة لنقلها.
وبعد حدوث صدمة نظامية حادة، تتحول الكفاءات التى تجعل عملية التصنيع منتجة للغاية إلى أوجه ضعف، فانخفاض مستويات المخزون تساعد الشركة على توظيف رأس المال بشكل أكثر كفاءة، ولكنه يتركها دون شبكة أمان إذا صفّى أحد الموردين أعماله.
كما أن شراء مواد خام بكميات هائلة من عدد صغير من الشركاء، يمكن أن يخفض التكاليف، ولكنه يقليص تنوع الموردين الذين تحتاجهم الشركات للتعافى من أزمة.
وتسمح سلاسل التوريد العالمية، للشركات بالاستفادة من أسعار العمالة الأرخص فى الاقتصادات النامية. ولكنها تتركها معرضة إلى إغلاق الحدود حال وقوع توترات تجارية أو أوبئة.
وسيترك التأثير الاقتصادى للوباء، الشركات الكبرى بميزانيات قوية وقدرة على الوصول للأسواق المالية وللأموال الحكومية وهى فى مركز أقوى نسبيا، كما قد يعتمد الموردون الأصغر ولكن ذوى الدور الهام فى سلسلة التوريد والذين يوفرون مكونات حيوية، على الشركات متعددة الجنسيات الموجودة فى أعلى سلاسل توريدهم.
أما هؤلاء الذين يطرحون المنتجات السلعية، سيجدون الاستمرار أكثر صعوبة. ومع انتشار الشبكات التجارية فى جميع أنحاء العالم وخلقهم مجموعة متزايدة من المنتجات ازداد التعقيد والتكاليف المرتبطة به بشكل كبير، وبالتالى ستتيح الأزمة المالية، الفرصة لأكبر الشركات لتهذيب تلك الشبكات.
ورغم حروب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وارتفاع الشكوك العالمية بشأن التحول الوطنى فى بكين، فإن الصين فى وضع جيد للاستفادة من هذا الاتجاه، وفى منتصف الألفينات، كانت الدولة فى الأساس موقعا للتجميع النهائى للمنتجات مثل الهواتف الذكية والتى كانت مكوناتهم المعقدة وحقوق ملكيتهم تأتى من أماكن أخرى.
ولكن حتى قبل انتخاب ترامب، انتهى هذا العصر، وارتفعت القيمة المضافة المحلية فى الصادرات الصينية من %75 فى 2005 إلى %85 بعد 10 سنوات، وفقا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، وهو ما جلب 1.25 تريليون دولار إضافية إلى الاقتصاد.
وحتى مع صعودها فى سلاسل القيمة، لم تتخل الصين إلا قليلا عن صناعتها ذات الهامش المنخفض إلى دول أخرى.
وتشير بيانات الاستثمار الأجنبي، إلى أن قرع طبول الحرب التجارية من واشنطن لم يفعل الكثير للقضاء على عوامل جذب الصين. ورغم أن التدفقات الاستثمارية تراجعت فى السنوات الماضية مع تباطؤ الاقتصاد العالمي، فإن حصة الدولة من إجمالى الاستثمارات العالمية فى الأربعة فصول الماضية كان حوالى %11 أى ما يتماشى مع نهايات القرن العشرين.
وفى ديسمبر الماضي، سجلت الصين رقما قياسيا للصادرات أكبر من أى رقم آخر فى التاريخ. ورغم أن اليابان لديها حزمة تحفيزية تقدم 2.2 مليار دولار دعما للشركات التى تنقل أعمالها خارج الصين، فإن عمالقة الصناعة اليابانيين يبدو مترددين لقبول العرض.
وتشير الأثار المباشرة للفيروس، إلى أن جاذبية الصين كمركز تصنيع ستستمر، كما ستواصل ابتلاع معظم سلاسل التوريد المادية فى العالم، ولكن من الجدير بالملاحظة أيضا هو تدفقات الأصول غير الملموسة مثل مدفوعات حقوق الملكية ورسوم الترخيص ومدفوعات القروض بين الشركات، فبعد كل شيء كان المستفيدون الأكبر من إعادة تشكيل سلاسل التوريد العقد الماضى هى الملاذات الضريبية التى تلقت كميات هائلة من هذه الأموال.
وتنمو تدفقات الأصول غير الملموسة الآن بوتيرة أسرع من الاستثمار الأجنبى نفسه، ووقعت تقريبا ثلث الزيادة فى الاستثمارات الداخلة عالميا ما بين 2008 و2018 فى 7 مراكز مالية فقط هى جزر فيرجين البريطانية، وجزر الكايمان، وهونج كونج، وأيرلندا، وهولندا، وسنغافورة، وسويسرا، وهو ما يعد تسارع عن العقد الذى يسبقه عندما ابتلعت نفس الدول ربع الزيادة فى الاستثمارات.
ومن غير المرجح أن تتلاشى عوامل جذب وجهات تجنب الضرائب تلك، خصوصا مع ازدياد الضغوط على موازنات الشركات، وسعى الحكومات للسيطرة على حصة أكبر من الكعكة.
ومع تعافى العالم من فيروس كورونا، ستأخذ مرونة سلاسل التوريد بالتأكيد، الأولوية عن الإنتاج الآني، وهى عملية تجرى بالفعل.
فقد أدرك المديرون الضرر الذى يمكن للاضطرابات أن تحدثه: وعانت حوالى %65 من الشركات فى دراسة مسحية حديثة أجراها معهد استمرار الأعمال من اضطرابات فى سلاسل التوريد على مدار الـ 12 شهرا الماضية، فى حين واجه %15 منهم 5 أزمات واضحة على الأقل، وأعلنت %14 عن خسائر لا تقل عن مليون يورو.
ومع ذلك، فإن الدروس المستفاة من العقد الماضى أو نحو ذلك مرورا بالأزمة المالية العالمية فى 2008، والدراما التجارية للرئيس دونالد ترامب هى أنه رغم مجهودات الحكومات ومديرى الشركات، فإن سلاسل التوريد سواء البضائع المادية أو الأصول غير الملموسة لديها قدرة كبيرة على شفاء نفسها ومواصلة مساراتها السابقة.
بقلم: ديفيد فيكلينج، كاتب مقالات لدى “بلومبرج” يغطي السلع والشركات الاستهلاكية والصناعية.
إعداد: رحمة عبدالعزيز. المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”.